أي وسادة سمعت حكاوي الألم، حتى اخضلّ قُطنُها بالدموع مثل وسادتها؟
فآلامها أوسعُ من البحر المالح.
وحزنها مثل صبّارات جبال الجليل، لا ينتهي شوكها.
أي وسادةٍ عايشت بياضَ الأمل، حتى أشرقت من أنواره السماء والأرض مثل وسادتها؟
فأمَلُها واسعٌ كأجنحة ملاك يترأَّف بقلب نبيّ في أول لقاء بينهما.
فكيف تستطيع أسوار “عوفر”، أو جدران “ها شارون”، أو أسلاك “كتسيعوت” وبحر الرمال المحيط بها… كيف تستطيع أن تحدّ من أفاق هذا الأمل؟!
إنها وسادة أمي.. أنا المخطوف من الحرية، المدان بجُرم البحث عن وطن.
أنا الذي لم أستطع أن ألجم لساني، كيلا يتفوّه بالكلمة الممنوعة “فلسطين”.
كيلا يتغنَّى بسرّة البرتقال، ولا يتغزّل بعطر الجوّافة، ولا يمدح صفاءَ الزيت المنساب من جبال نابلس.
كي لا يترنم بطعم الصعتر والعكوب لأنها نباتات ممنوعة!
وكيف لا تكون ممنوعة وهي التي تخرج من غير إذن، ودون أن يزرعها أحد، وتشقّ الصخر لتطلع، ولكنها لا تنبت إلا حيث لا تدوس الأقدام ولا تعبث اليدُ الفاجرة.
إنها وسادة أمي، ومن مثل أمي؟!
لأمي مثيلاتٌ كثيرات، على سجادة صلاة موجودةٍ في زوايا بيوت فلسطين.
وراء “طابون” لم تزل نساء فلسطين يُنضجن فيه الخبزَ و”الفريك” منذ أيام كنعان وحتى الآن، ولا تزال طقطقة الأغصان الصغيرة تنبعث منه، لحناً يرافق رائحة الخبز المعجون حباً وشقاء.
لأمي مثيلات كثيرات، لكل واحدة منهنّ شهيد، أو شهداء؛ لكل واحدةٍ منهنّ قلبٌ مسافرٌ مع أسير أو مُبعد أو مطارَد أو مفقود أو جريح.
لأمي مثيلات كثيرات، باسمهنّ تتكلم “لطيفة أبو حميد”، بلسانٍ أفصح من هارون، وقلب حطّم بصبره أنواء السنين.
تقول لطيفة… سنديانة فلسطين: (منذ ثلاثين عاماً وأنا أحمل في قلبي حُلماً. حلماً كان يراودني في كل لحظة من لحظات حياتي. هذا الحلم يعيش في داخلي وهو أن أرى أبنائي يعيشون بجواري، تحت سقف واحد. حيث كان سبعةٌ منهم داخل سجون ومعتقلات الاحتلال وكانوا يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد، ولكن هذا الحلم تلاشى شيئاً فشيئاً. وعندما حانت لحظة الإفراج عن بعضهم ضمن الاتفاقية الموقّعة بين السلطة والاحتلال الصهيوني، وصفقات التبادل بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال، تبيّن أن الوقت قد فات، فقبل الإفراج عن أبنائي بفترة قصيرة، كان ابنٌ لي – عزيزٌ على قلبي – على موعد مع الشهادة في سبيل الله والوطن).
لقد استشهد “صائد الشاباك” عبد المنعم أبو حميد، الذي اغتالته وحدة إسرائيلية خاصة بعد مطاردة استمرت لشهور عام 1994، فأضيفت لوعة جديدة إلى قلب الأمّ الذي عمّر لنفسه قصوراً في أرض الصبر والألم.
ولكن أنّى لهذا الخافق التَعِب أن ينحني، أو يلينَ له عود، أو تنكسر لـ “أم ناصر” قناة.
ناصر؛ الابن البكر الذي يمشي عزيزاً نحو الخمسين من عمره، وعلى كتفيه حكم بالسجن المؤبد سبع مرات بتهمة المسؤولية عن مقتل سبعة إسرائيليين في الانتفاضة الثانية.
ناصر الذي قاد منذ نيسان ٢٠١٧ إضراباً للأسرى مفتوحاً عن الطعام، شاركه فيه إخوته: نصر المحكوم بالسجن المؤبد خمس مرات، وشريف المحكوم بالمؤبد أربع مرات، وأصغرهم محمد المحكوم بالمؤبد مرتين.
ومن هذا الولد إلى ذاك يتوزع عمر أم ناصر، ساعيةً من معتقل إلى معتقل، تبحث عن عشر دقائق مع فلذة كبدٍ لها، تراه ولا تستطيع لمسه، تخاطبه عبر سماعة الهاتف دون أن تكون قادرة على شمّ ريحه، فالزجاج القاسي يفصل بينها وبين مهجة قلبها.
هذه أم ناصر، وهي مثل أمي، وأمي مثلها، ومثلهما أمهات كثيرات هنّ شبيهات هذه الأرض.
هنّ البطن الحامل أملاً وحُلُماً.
الواضعاتُ عن هذه الأمة إصرَها، المحطماتُ أغلالَها التي كانت عليها.
المتنفساتُ كرامةً وحرية.
المرضعاتُ شرفاً ورجولةً.
الفاطماتُ أولادهن عن اليأس والخنوع الانكسار.
هنّ كلهنّ أمهاتي، وهنّ جميعاً أم واحدة، وهي أمٌ فلسطينية.
بقلم الأستاذ الشّيخ محمّد أديب ياسرجي- عضو الحملة العالمية للعودة والملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين.
اضف تعليقا