عندما صعد السيد “وليم سيمونز جيمبو” إلى منصة التكريم، كان يحمل بيده آلةً موسيقيةً بسيطة من آلات الإيقاع التي يُضرَب عليها بعصا صغيرة.

ارتقى درجات المنصة، ثمَّ تقدّم حاملاً بيده الأخرى مجسّماً لخريطة فلسطين، وإلى جواره مفتاح قديم يرمز إلى حقِّ العودة الأصيل؛ صافحَ السيد “جيمبو” ضيفَه المكرَّم، السيد “جلعاد آتزمون”، وقدَّم إليه ذلك المجسّم الفني الجميل، شهادةً على تقدير كلِّ المناصرين لقضية فلسطين، لما قدّمه السيد “آتزمون” من موسيقى راقية، ولما اتخذه من مواقف شريفة، نصرةً للحقِّ الفلسطينيّ السليب.

تشابكت اليدان معاً وهما تحملان مجسم فلسطين ومفتاح العودة، يدان جاءتا من أصقاع شتى، وثقافات متباينة، ولكنهما خاضتا كفاحاً مشتركاً؛ كفاحاً اجتمع عند الإنسان والفن وفلسطين.

جاء “وليم سيمونز جيمبو” من أمريكا، وهو أحد كبار المناضلين من سكانها الأصليين، الذين محا المستعمر الأوربي تراثهم كلَّه إلا قليلاً مما حافظ عليه السيد “جيمبو” وأمثاله، حتى أننا لا نعرف لبلدهم اسماً إلا “أمريكا”، ونطلق عليهم وصف “الهنود الحمر”، وهما اسم ووصف لا يمتَّان إلى الحقيقة بصلةٍ معتبرة.

جاء السيد “جيمبو” من الولايات المتحدة، ليكرِّم “جلعاد آتزمون”، ذلك المهاجر عن الكيان الصهيوني، الذي مزَّق جواز السفر الإسرائيلي، متخليّاً عن هذه الجنسية المختلَقة زوراً، رفضاً للظلم والعسف وتزوير الواقع والتاريخ، ونصرةً لأصحاب الحقِّ، الذين تُدعى أرضهم منذ الأزل وإلى الأبد “فلسطين”.

ويالَه من توافق بديع في زمن التناقضات العجيبة… مواطن أصليّ من البلد الأكثر دعماً للكيان الصهيونيّ، يكرّم ذلك المنشقّ عن جيش الاحتلال الاسرائيليّ، الذي حمل “الساكسفون” ليعزف عليه موسيقى الحرية، منادياً بصوت فريد: أنا فلسطينيٌّ أتكلم العبرية !

ولكنه الحقّ والإنسان، والفنّ صوتهما الذي يصدح عبر الموسيقى المنبعثة من “دُفّ” جيمبو، و “ساكس” جلعاد.

رغم أنَّه آلة غربية صرفة، بدَتْ الأنغام المنبعثة من “الساكسفون” وكأنها آتيةٌ من عُمق الشرق، من ربابة راعٍ فلسطيني يقود خرافه على سفح إحدى التلال المنحدرة نحو غَور الأردن.

كانت الموسيقى مليئة بالأحاسيس الدافئة لشمس الجليل، غنيَّة بجمال البرتقال من بيَّارات يافا، عبقةً برائحة الجوافة وزهر الليمون، متماوجة على أنفاس جلعاد تماوجَ تواقيع الزمن على جبهة أمٍّ من المدينة المقدسة القديمة.

وأمَّا صوت “جيمبو” وضربات عصاه على الدُفِّ المزيَّن برسوم لعصافير الطنَّان الصغيرة الملونة، فلهما حكاية أخرى، حكاية تكمّل القصة التي رواها لنا “ساكس” جلعاد.

بدا لي صوت “جيمبو” آتياً من بئر بعيدة، بئر عميقةٍ عمقَ الألم الناضح من تقاسيم وجهه العتيق، وكأنه قدِمَ إلينا عبر آلة الزمن، لنحيا معه التاريخَ صوتاً وصورة.

كان كليثٍ جريح، يصرخ بصوت لا هو بالزئير ولا هو بالعويل… كأنه صوتٌ من غير كلمات، لكنه صوتٌ حيُّ غنيٌّ، لا تنفَد معانيه ولا تنتهي رسائله.

تمنيتُ ألا تتوقف صرخته وألا تنتهي أغنيتُه، لكنه توقف بعد أن وصل إلى الأعماق، إلى حيث هي الروح منّي، ولم يغادرها حتى الآن.

يالك من محظوظة يا فلسطين، وحقاً لن تموت قصتك، فأنّى للموت أن يُدرك قضيةً استطاعت أن تحييَ الإنسان في داخل “جلعاد”، وأن تبعث الحق في صوت “جيمبو”، وأن تجمع كل هؤلاء المختلفين حتى بدَوْا وكأنهم فَرْدُ إنسان.

بقلم الأستاذ الشّيخ محمّد أديب ياسرجي- عضو الحملة العالمية للعودة والملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين