غزة بعد الحرب… ركام لا يُحصى وجوع يطرق الأبواب
لم تنتهِ الحرب في غزة، بل غيّرت وجهها فقط. فبدل القصف الذي يهزّ الأبنية، هناك الآن صمت ثقيل يعلو فوق أنقاض مدينة تُعدّ اليوم الأكثر دمارًا في العالم نسبةً إلى مساحتها وعدد سكانها. أكثر من سبعين مليون طن من الركام تغطي شوارع القطاع وأحياءه، فيما تنتشر عشرات آلاف القنابل غير المنفجرة بين بقايا البيوت، لتجعل من كل طريقٍ قنبلة مؤجلة ومن كل حيٍّ فخًا للموت.
تقديرات هندسية في غزة تؤكد أن حجم الركام يفوق بأضعاف قدرات البلديات وفرق الدفاع المدني، وأن إزالة هذا الكمّ من الأنقاض تحتاج إلى ما لا يقل عن خمس سنوات من العمل المتواصل، مع دعمٍ دولي عاجل. فالمعدات القليلة لا تكفي، والكوادر المنهكة تعمل وسط أخطارٍ تحاصرها من كل اتجاه. كما حذّرت الجهات المختصة من انتشار آلاف الذخائر غير المنفجرة بين مخيمات اللاجئين والمناطق السكنية، واصفة إياها بـ”القنابل الموقوتة” التي قد تشعل مآسي جديدة في أي لحظة.
وبينما تحاول طواقم الإنقاذ فتح الطرقات وإزالة الركام، لا تزال الكارثة الإنسانية تتعمّق. فالحرب التي أحرقت الحجر لم تترك للإنسان سوى الجوع والخوف. أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون اليوم بين خيامٍ مؤقتة ومدارس مهدّمة، بلا كهرباء كافية أو مياه نظيفة، وفي ظلّ ندرةٍ متصاعدة في الغذاء والدواء.
تؤكد تقارير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن نحو 88% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة دُمّرت أو لم يعد بالإمكان الوصول إليها بسبب القصف والألغام، ما أفقد آلاف المزارعين مصدر رزقهم الوحيد، وتسبّب بانهيار شبه كامل في الأمن الغذائي. كما يشير برنامج الأغذية العالمي (WFP) إلى أن استمرار إغلاق المعابر، خاصة في الشمال، حال دون إدخال المساعدات الإنسانية اللازمة، في وقتٍ لا يزال فيه الاحتلال يمنع دخول أصنافٍ أساسية من المواد الغذائية واللحوم والدواجن والخضروات الطازجة.
الأسواق التي كانت تنبض بالحياة صارت شبه خالية. المواد المتوفرة قليلة، وأسعارها تضاعفت مرات، فيما يعيش معظم السكان تحت خط الفقر بلا عملٍ أو دخل. كل ذلك جعل من الطعام حلماً يومياً، ومن الحصول على وجبةٍ مشبعة حدثًا نادرًا ينتظره الناس في طوابير الإغاثة الطويلة.
الأمم المتحدة من جانبها حذّرت من أن ما تشهده غزة يشكّل خطرًا إنسانيًا غير مسبوق، إذ دعا مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى جعل حقوق الإنسان محورًا لأي عملية تعافٍ في القطاع، مؤكّدًا ضرورة وقف سياسة العقاب الجماعي وضمان وصول الغذاء والمياه والرعاية الصحية بشكل عاجل.
ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ أيام، فإن آثار الحرب لا تزال تلاحق الناس في كل زاوية. فالموت لم يغادر المدينة بعد، بل غيّر ملامحه. أصبح في الركام الذي يطمر الشوارع، وفي الهواء المليء بالغبار، وفي الجوع الذي ينهش الأجساد بصمت.
ومع ذلك، تظلّ غزة تقاوم بطريقتها؛ فبين الخيام تُقام الحياة من جديد، وفي العتمة يولد الضوء من فتات الأمل. هناك من يرفع الركام ليجد بقايا منزله، ومن يصلح بيديه ما بقي من جدارٍ أو نافذة. فهذه الأرض التي احترقت مرارًا، لا تعرف الاستسلام.
غزة اليوم مدينة على حافة الفناء، لكنها أيضًا مدينة لا يمكن أن تموت. تقف على جرحها، تنظر إلى البحر الذي ضاق بها، وتقول للعالم من تحت الغبار: ما زلنا هنا… ننتظر الحياة من بين الركام.