When Death is no Longer an Escape… Gaza’s Cemeteries Turn into a Battlefieldحين لم يعد الموت ملاذًا… مقابر غزة تتحول إلى ساحة حرب

ليلة المطر في الخيام… سردية البقاء في شتاء غزة

لم يكن المطر في مواصي خان يونس حدثًا عابرًا، بل اختبارًا قاسيًا لحدود الاحتمال. هناك، حيث تمتد خيام النزوح المتهالكة على طرق موحلة بلا نهاية، طرق المطر ليلًا أسقف القماش الرقيق، فصار الصوت إنذارًا مبكرًا لليلة ثقيلة. لم تكن موسيقى مطر، بل نقر خوفٍ يتكاثر مع كل قطرة، يذكّر بأن المأوى المؤقت قد ينهار في أي لحظة، وأن البقاء نفسه فعل مقاومة.

خيمة على حافة الانهيار

داخل إحدى الخيام، وقف محمود الحداد، في منتصف الثلاثينيات، يراقب الماء وهو يتسلل من كل زاوية في السقف المهترئ. أسئلة بسيطة، قاسية، كانت تهمس في داخله: كيف ينقذ ما تبقى من مقتنيات أسرته؟ كيف يحمي طفلين من بردٍ لا يرحم؟ حوله، كانت حركة المخيم توحي بهشاشة جماعية؛ نساء يشدِدن حبالًا بالية، أطفال يجلسون على أرض مبتلة يراقبون الماء وهو يتقدم، وخيام تتمايل كأنها تتنفس خوفًا.

مع كل ساعة مطر، كانت الخيام تفقد قدرتها على المقاومة. خيمة محمود، التي نُصبت بعد تدمير منزله في الحرب، واجهت اختبارًا قاسيًا. عند منتصف الليل، تجمعت المياه تحت الفرشات والملابس. حاول رفع ما يمكن رفعه، لكن التدفق كان أسرع. حين بدأ حمزة وإسلام يرتجفان من البرد، صار الماء يدخل من كل حدب، فشعر محمود، كما يقول، أن العالم ينهار دفعة واحدة. دقائق قليلة كانت كافية لانهيار الدعامة الخلفية، وتحوّل مساحة السكن إلى بركة من الطين.

صباح ما بعد العاصفة

مع بزوغ الصباح، بدا المخيم وكأنه خرج للتو من كارثة صغيرة: خيام متساقطة، نايلون ممزق، روائح تختلط فيها رطوبة القماش بوقود التدفئة. لم تكن الخسارة مقتنيات فحسب، بل رموز حياة. دفاتر الأطفال ورسوماتهم وواجباتهم المدرسية غمرتها المياه. “أصعب لحظة لما شفت الدفاتر”، يقول محمود بصوت متعب، “حتى أبسط ما يملكون راح”.

هذه الصورة الفردية تختصر مأساة أوسع. ففي خيمة أخرى، فقدت رضيعة حياتها بسبب البرد القارس الناتج عن المنخفض الجوي.

وزارة الصحة أكدت وفاة الطفلة رهف أبو جزر، في مؤشر صارخ على هشاشة الأوضاع الصحية والمعيشية داخل المخيمات. وفي 24 ساعة فقط، تلقى جهاز الدفاع المدني أكثر من 2500 نداء استغاثة، بحسب المتحدث باسمه محمود بصل، الذي حذّر من آثار “كارثية” مع ذروة المنخفض، مؤكدًا أن الإمكانيات المتاحة لا تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات، وأن الخيام ليست حلًا إنسانيًا، بل تزيد معاناة النازحين.

أرقام تكشف عمق الأزمة

على امتداد القطاع، أعلنت فرق الدفاع المدني عن انهيار منزل من ثلاثة طوابق شمال غزة، وغرق مخيمات كاملة في مواصي خان يونس ومناطق في دير البلح والنصيرات ومدينة غزة.

خلال 12 ساعة نُفذت 32 مهمة، بينها التعامل مع غرق خيام، وإجلاء سكان، وشفط مياه. التقديرات تشير إلى أن نحو 250 ألف أسرة تعيش في مخيمات نزوح تعاني نقص الخيام والملاجئ المناسبة. ووفق المكتب الإعلامي الحكومي، فإن معظم الخيام لم تعد صالحة للإقامة؛ الحاجة تتجاوز 300 ألف خيمة جديدة، فيما 93% من الخيام القائمة غير صالحة للسكن.

محاولات صمود

رغم كل شيء، لم يستسلم محمود. بمساعدة الجيران، أعاد رفع الأعمدة وجمع نايلون ممزق وأخشابًا قديمة ليقيم خيمة بالكاد تقيهم.

أطفاله، مثل آلاف الأطفال، يعيشون بين البرد والماء والطين؛ لعبهم محاولة للعثور على بقعة جافة. بابتسامة حزينة، يلخص محمود مطلبه: “مش طالبين رفاهية… بس سقف يحمي الأولاد من المطر وليلة ننام فيها بدون خوف”.

قصة محمود ليست استثناءً، بل فصلًا متكررًا من يوميات النزوح في غزة. هنا، تتحول ليلة مطر إلى معركة للبقاء، وتصبح الخيمة امتحانًا للكرامة قبل أن تكون مأوى.

وبين خيام غارقة ومنازل مهدمة وخدمات منهارة، ينتظر الناس بارقة مساعدة: خيمة صالحة، بيتًا متنقلًا، أو قرارًا إنسانيًا يعيد تعريف الحماية. إلى أن يحدث ذلك، سيظل المطر في غزة أكثر من طقس… سيظل سؤالًا مفتوحًا عن حقٍ بديهي في الأمان، يتأجل مع كل عاصفة.

Share This Story, Choose Your Platform!