بين أنين الأطفال في حضانات أطفأها انقطاع الكهرباء، وصرخات الأمهات اللاتي ينتظرن قطرة وقود لإنقاذ أرواح أحبّائهن، ترسم غزة اليوم ملامح واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، بينما يصطف العالم في طوابير الصمت.
“الوضع في غزة تجاوز حد الكارثة”، بهذه الكلمات القاطعة وصف المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بغزة واقعًا لم يعد قابلًا للتجميل أو التبرير. واقع تحوّل فيه الحصار إلى مقصلة، والجوع إلى سلاح، والطفولة إلى هدف مفتوح للقتل البطيء.
في مستشفى ناصر، لم تعد غرف العناية المركزة ملاذًا آمنًا للرضّع، بل غرف انتظار للموت، يقول مدير قسم الأطفال في المجمع الطبي: “نفاد الوقود وتوقف عمل الأجهزة وحضانات الأطفال حُكم بالإعدام عليهم.”
كلمات لا تحتمل التهويل، بل تعكس بصدق اللحظة التي تُنتزع فيها الحياة من كائن لم يتعلم بعد كيف يبكي.
القطاع المحاصر، الذي يقف اليوم على حافة المجاعة، بات يعاني من وفيات بين الأطفال الرضع نتيجة سوء التغذية، في سابقة مرعبة تؤشر لما هو قادم.
“وفيات الرضع مؤشر مقلق على أزمة المجاعة الوشيكة،” يحذر أطباء يعملون في غزة، حيث الحليب أغلى من الأمل، والدواء أمنية مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
في ظل هذا الانهيار الصحي، تُطلق وزارة الصحة في غزة نداء استغاثة مدوٍ: “نناشد الجهات المعنية بالضغط على الاحتلال لإدخال إمدادات الوقود لعمل المولدات.“
المرضى يختنقون، وغرف العمليات تتوقف، وثلاثمئة إنسان بحاجة لإجلاء طبي عاجل خارج غزة، وفق ما أعلنت منظمة الصحة العالمية.
لكن المأساة لا تقتصر على الجرحى والمرضى فقط، إنها تطال روح الإنسان وكرامته. تقول الأونروا، التي تواجه يوميًا فوضى توزيع المساعدات: “نظام توزيع المساعدات الحالي أهان عائلات جائعة وخائفة ومصابة ومنهكة، وجردها من إنسانيتها.”
أكثر من ذلك، أصبح الخضوع لنظام المساعدات القائم تحت هيمنة الكيان الغاصب والولايات المتحدة، كما وصفت منظمة أطباء بلا حدود، وسيلة جديدة للموت الجماعي تحت مسمّى “المساعدات”، حيث يُقتل الناس وهم يركضون نحو الطعام.
وفي مشهد يختزل الجنون، يواصل الكيان الغاصب استهداف العائلات الفلسطينية النازحة حتى في المناطق التي صنفتها بأنها “آمنة”، وفق تقرير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
أما الصوت الأكثر صراحة، فجاء على لسان المقررة الأممية المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين التي قالت: “إسرائيل” مسؤولة عن واحدة من أكثر عمليات الإبادة في التاريخ، كلمات لا تحتاج إلى تعليق، بل إلى محكمة وعدالة لا تزال غائبتين.
وسط هذا الجحيم، تتكثف الأصوات الأممية مطالبة بكسر الحصار: “يجب السماح بدخول الوقود على نطاق واسع عبر الأمم المتحدة للحفاظ على الخدمات المنقذة للحياة”، أكدت الأونروا، فيما شددت مسؤولة الاتصال في الوكالة على أن: “رفع الحصار ضرورة لإنقاذ الأرواح والسماح للأمم المتحدة بأداء عملها.”
في غزة، لا ترف في الوقت لانتظار بيانات جديدة، ولا متسع للأمل في ظل تجويع ممنهج وحصار قاتل، وحدها الحقيقة تصرخ: غزة لا تموت فقط من القصف… بل من جوعٍ يُدار من مكاتب مغلقة، وعجزٍ تتواطأ فيه العيون المُغمضة.
اضف تعليقا