الشتاء يطرق خيام غزة… والعالم يلتزم الصمت
في غزة، حين تهطل أولى قطرات المطر، لا يفرح الناس ببركة الشتاء، بل يستعدون لجولة جديدة من المعاناة. الشوارع مكتظة بالعائلات النازحة، أطفال ينامون فوق الحجارة الباردة، وأمهات يلففن صغارهن بقطع قماش رقيقة لا ترد بردًا ولا تحجب ريحًا. المدينة التي احترقت بنار حرب الإبادة، تواجه اليوم بردًا لا يقلّ قسوة عنها، وجوعًا يحاصرها من كل الجهات.
في مخيم دير البلح، يجلس أبو أحمد قرب نارٍ صغيرة أشعلها من بقايا نوافذ محطّمة، يراقب الدخان يصعد كأنّه استغاثة معلّقة في الهواء. يقول بصوتٍ متعب: “منذ أسابيع ونحن ننام في الشارع. وعدونا بخيام وبطانيات، لكن شيئًا لم يصل. لا أحد يسمعنا.” إلى جواره تجلس أم أحمد، تضمّ طفلها المريض إلى صدرها المرتجف: “كل ليلة أخاف عليه من البرد. حرارته ترتفع… ولا دواء.”
ليست قصة أبو أحمد سوى فصل من رواية طويلة تُكتب على وجوه الغزيين كل يوم. فبحسب وكالة “الأونروا”، لم تدخل إلى القطاع سوى ألف شاحنة مساعدات من أصل 6600 كان يفترض وصولها منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. آلاف الشاحنات الأخرى تنتظر على المعابر المغلقة، بينما يقف في الداخل مئات الآلاف من الجوعى في طوابير الخبز والماء.
في خان يونس، يصطف الرجال والنساء منذ الفجر أمام شاحنة صغيرة توزع الأرغفة القليلة. أحد النازحين يهمس: “نقف ساعات طويلة من أجل ربطة خبز. الأطفال يبكون، ونحن نحاول إسكاتهم بالوعد… فقط بالوعد.”
لكن الوعود لا تشبع، والمساعدات التي يُتحدث عنها في المؤتمرات لا تصل إلى الخيام. عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم الأونروا، يقول إن “مواد الإيواء والإمدادات الشتوية موجودة في مستودعاتنا في الأردن ومصر، لكنها ممنوعة من الدخول”، فيما يواصل الكيان الغاصب إغلاق معبري زيكيم وإيريز، لتجعل من الحصار قانونًا ومن الجوع عقوبة جماعية.
في الزوايدة، يقيم العشرات قرب مدرسة مهدّمة، يلوذون بجدرانها المتشققة من المطر. أبو العبد، المدرّس الذي فقد منزله، يختصر المشهد بكلمات قليلة: “لا نطلب رفاهية… فقط مأوى آمن، ودواء للأطفال.” أما الطفل آدم، فيقف حافيًا بين الركام يسأل أمه بخجل: “ماما، متى نرجع بيتنا؟” فتخفض رأسها بصمت، كأنها تخشى أن يقرأ ما في عينيها.
وفق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يعاني 96% من سكان غزة من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعيش عشرات الآلاف في خيام مهترئة أو مدارس مهدّمة بلا ماء ولا دواء ولا دفء. وحتى الآن، لم يسمح الكيان الغاصب بدخول أكثر من ألف شاحنة، في وقتٍ يحتاج فيه القطاع إلى أضعاف مضاعفة من هذا الرقم ليبقى الناس على قيد الحياة.
في غزة، لم يعد الشتاء موسمًا للخير، بل فصلًا جديدًا من الألم. خيام مهترئة تتحدى الريح، وأجساد ترتجف في ليلٍ بلا دفء، وقلوب تنتظر معجزة لا تأتي.
ومع كل قطرة مطرٍ تسقط فوق الركام، يهمس الغزيون بعبارة واحدة تختصر حكايتهم كلها: نحن لا نطلب المستحيل… فقط أن نعيش.



