حين لم يعد الموت ملاذًا… مقابر غزة تتحول إلى ساحة حرب
في غزة، لم يعد الموت نهاية الألم، بل بدايته الجديدة. هناك، حيث يفترض أن تستريح الأرواح وتبقى الذاكرة محفوظة تحت شواهد صغيرة، تمددت الحرب حتى بلغت المقابر، فحوّلت بقايا الحياة الأخيرة إلى جراح مفتوحة. لم يعد التراب ملجأ آمنًا لمن غادروا، بل مساحة مهدّدة تُجرف وتُداس وتُقتلع، بينما يراقب الأحياء المشهد بألمٍ أعمق من الموت نفسه.
تكشف الأيام واحدة من أعقد المآسي المرافقة لحرب الإبادة على غزة: استهداف المقابر والمواقع الجنائزية. فوزارة الأوقاف ومنظمات حقوقية تؤكد أن آلاف القبور جُرفت أو دمّرها القصف أو سحقها تقدم المدرعات والجرافات العسكرية. صور الأقمار الصناعية توثّق الأضرار في ما لا يقل عن ست عشرة مقبرة مركزية، بعضها له طابع تاريخي أو دولي، وبعضها يخص مخيمات اللاجئين والأحياء المكتظة بالسكان.
لم تكتف آلة الحرب بتسوية القبور أو تمزيق شواهدها، بل تحولت بعض المقابر إلى مواقع تمركز عسكري أو ممرات لوجستية خلال التوغل البري. تشوّهت ساحات الدفن، فتحت طرق داخلها، وامتلأت الأرض التي كانت رمزًا للسكينة بعلامات الجنازير.
وتحت غطاء البحث عن “أنفاق” أو عن رفات “رهائن” كما تروّج الرواية الصهيونية تشير شهادات ميدانية وتقارير حقوقية إلى عمليات حفر للقبور ونبشٍ للرفات، في انتهاكات مصوّرة وموثقة دوليًا. النتيجة: اختلال جذري في البنية الجنائزية للقطاع، والعائلات مضطرة لدفن شهدائها في ساحات المدارس والحدائق العامة، بينما تبقى آلاف الجثامين تحت الأنقاض بسبب استمرار العمليات العسكرية.
“حتى قبرها… سرقوه”
في وسط هذه الصورة الكبرى، تقف صابرين بعلوشة وهي أم فقدت طفلتها الوحيدة “لين” شاهدة صغيرة على الوجع الكبير. تروي بصوت يوشك أن ينطفئ أنها دفنت ابنتها في مقبرة البطش، وقفت عند رأس قبرها ساعات تعدها بالزيارة والورد والدعاء، لكن الاجتياح غيّر كل شيء.
عادت بعد أسابيع تبحث عن القبر، فلم تجد شيئًا — لا شواهد ولا ملامح ولا حتى أرض مألوفة. تقول إنها كانت تحفر التراب بيديها، تنادي باسم طفلتها وتبكي حتى انقطع صوتها. فقدت صابرين ليست طفلتها فحسب، بل مكانها الأخير، عنوانها في العالم، تلك البقعة التي كانت تمنحها الوهم بأن الرحيل أقلّ حدّة. اليوم، تنام في خيمة قرب مدرسة إيواء، تحتضن صدرها كما لو أنّ أصابع طفلتها لا تزال تتشبّك فيه، وتقول: “لم يتركوا لي شيئًا… حتى القبر الذي أبكي عنده سرقوه”.
هذه ليست حكاية فردية، بل صورة مكثفة لمشهدٍ عام بات الموتى فيه أيضًا ضحايا للحرب، بينما يتضاعف عذاب الأحياء بين فقدان أبنائهم وضياع رفاتهم، في غياب أي تدخل دولي قادر على وقف الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها.
جريمة مزدوجة
مدير عام وزارة الأوقاف في غزة، أمير أبو العمرين، يصف المشهد بأنه جريمة مركّبة تطال الأحياء والأموات معًا. يؤكد أن الكيان الغاصب يسيطر على ثلث المقابر في القطاع، وأن ثلاث مقابر مركزية تقع تحت السيطرة العسكرية الكاملة. مقبرة الشهداء الأكبر، مساحتها تتجاوز 300 دونم أُغلقت أمام الدفن منذ الأيام الأولى للحرب، بينما تُمنع عمليات الدفن بالكامل شرق شارع صلاح الدين.
ويكشف أبو العمرين أن مقبرة الشيخ رضوان المغلقة منذ ثلاثة عقود تعرضت للقصف المباشر وتم نبش قبورها وإخراج جثامين منها. كما يتهم الكيان الغاصب بسرقة جثث ومنع دفن أخرى تُركت في الطرقات حتى أكلتها الحيوانات، مشيرًا إلى أن عشرات الآلاف من الشهداء تحت المنازل المدمرة دون القدرة على دفنهم.
منظمات حقوقية تصف هذه الانتهاكات بأنها مساس مباشر بالقانون الدولي الإنساني الذي يحمي المقابر ما لم تكن هدفًا عسكريًا صريحًا. ومع تكرار تجريف القبور ونبش الرفات، يرى مراقبون أن ما يجري قد يرتقي إلى جرائم حرب.
في غزة اليوم، دفن الموتى لم يعد نهاية الرحلة، بل معركة أخرى مع الكيان الغاصب. هنا، يُنتزع من الموتى حق الرحيل بسلام، ويُظلم الأحياء مرتين مرة حين يفقدون أحبتهم، ومرة حين يُسلب منهم المكان الذي يبكون فيه عليهم.
غياب صوت المجتمع الدولي جعل المقابر ساحة مفتوحة لعسف الحرب، وكأن الذاكرة نفسها تُمحى. وتبقى في انتظار عدالة غائبة، يواصل أهل غزة الدفاع عن موتاهم كما دافعوا عن حياتهم بالصمود، بالتشبث بما بقي من أرض، وبالإيمان بأن الذاكرة لا تُطمَس مهما ابتلعتها الجرافات.


