في بقعة ضيقة من الأرض، حيث يلتقي البحر مع السماء، وتتكثف المأساة حتى تغدو مشهداً يومياً متكرراً، تقف غزة عارية في مواجهة الطغيان، تتشح برماد القصف وتحتضن جراحها بصمت المقهورين، ليست غزة مدينةً فحسب، بل هي كائنٌ حيٌّ ينزف ولا يموت، جسدٌ تتناوب عليه الطائرات والمدافع، وروحٌ ترفض أن تُطفأ، كجمرةٍ تحت الرماد.
وفي زمنٍ تُكتب فيه القوانين بمداد المصالح، وتُمحى بنود الإنسانية تحت وقع القذائف، تقف غزة شاهدةً على أبشع خرقٍ لمنظومة القيم البشرية.
هناك، في ذلك الشريط الضيق من الأرض، لا يعلو صوتٌ فوق أنين الجوعى وصراخ المحاصرين، ولا قانون إلا قانون القوة العمياء التي تسحق الحياةَ بلا تردد.
في غزة، الطعام رفاهية لا تمنح للمحكومين بالموت شاحنات الإغاثة تُوقَف على المعابرِ، تُترك حتى يفسد ما فيها، أو تنهب بحجة التفتيش، أو تُمنع بالكامل لأن من حق المحتلّ أن يقرر من يستحقُ الحياة ومن يليق به الجوع.
يقف الأطفال في طوابير طويلةٍ على أمل الحصول على كسرة خبز، بينما تقف الإنسانية عاجزةً في وجه بطشٍ لا يعرف الحدود.
مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، يؤكد في تصريحات إعلامية أنَّ الكيان الغاصب لم يلتزم بتعهداته وأنَّه يعرقل إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية والإيوائية. مطالباً المجتمع الدولي بإلزام الكيان الغاصب بتنفيذ البرتوكول الإنساني لاتفاق وقف إطلاق النار المتعلق بإدخال المساعدات الإغاثية، منعا لوقوع “كارثة إنسانية غير مسبوقة”.
وأضاف الثوابتة: “نواجه نقصاً حاداً في الغذاء والمياه الصالحة للشرب، ما تسبب بارتفاع معدلات سوء التغذية خاصة للأطفال”، محذرا من أن “نفاد المستلزمات الطبية يهدد حياة آلاف المرضى”.
ووفق الثوابتة: “كان من المفترض إدخال 60 ألف كرفان و200 ألف خيمة، بالإضافة إلى 600 شاحنة يومياً محملة بالمساعدات والوقود خلال 7 أيام، لكن تأخر الاحتلال بالتسليم تسبب ببقاء عشرات آلاف الفلسطينيين في العراء”.
كما أشار إلى أن الاتفاق كان ينص على إدخال معدات الخدمات الإنسانية والطبية والصحية والدفاع المدني، وإزالة الأنقاض، وصيانة البنية التحتية، إلا أن الاحتلال يضع العراقيل ويماطل في التنفيذ، ما يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية”.
وحذر من “استمرار التشرد في الشوارع والمدارس والأماكن العامة، ما يعرض الأطفال وكبار السن والمرضى لمخاطر صحية ونفسية جسيمة”.
وأدى انتهاك الكيان الغاصب للاتفاق، إلى “توقف عمليات الإسعاف والدفاع المدني قسراً، بسبب منع دخول معدات الطوارئ والخدمات الطبية”، و”تعطل تشغيل محطة توليد الكهرباء نتيجة عدم إدخال الوقود والمعدات اللازمة، ما يعني استمرار انقطاع الكهرباء لساعات طويلة وتأثير ذلك على المستشفيات، ومضخات المياه، وخدمات الصرف الصحي، ووسائل الاتصال”، وفق الثوابتة.
وأشار مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى “استمرار قصف الاحتلال لمناطق بالقطاع، وتدمير المنشآت التعليمية ما يجعل من المستحيل استئناف الدراسة بشكل طبيعي، ويؤثر على مستقبل الأجيال القادمة”.
وحذر من أن “منع دخول المساعدات وإعادة الإعمار يؤدي إلى شلل اقتصادي، حيث تتوقف المشاريع، وتتفاقم البطالة، ويُحرم آلاف العمال الفلسطينيين من مصدر رزقهم”، مضيفا أن “استمرار إغلاق المعابر وعرقلة التجارة يؤدي إلى نقص السلع الأساسية وارتفاع أسعارها، ما يزيد من معاناة المواطنين”.
وبشأن أوضاع النازحين الفلسطينيين، قال الثوابتة: إن “استمرار النزوح، وفقدان الأمل في تحسين الأوضاع، والتعرض المستمر للقصف والدمار، يؤدي إلى ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق والصدمات النفسية، خاصة بين الأطفال والنساء”.
واعتبر “مماطلة الاحتلال في تنفيذ البروتوكول الإنساني انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقيات جنيف التي تنص على حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية في أوقات الحرب”.
وأكد أن “استمرار هذا السلوك دون محاسبة يشجع الاحتلال على ارتكاب مزيد من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني”.
وأمام ما يحدث في وضحِ النهار من انتهاكات، طالب الثوابتة “المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية والإنسانية، والأطراف الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، بالتدخل العاجل للضغط على الاحتلال لتنفيذ التزاماته فورا، ومنع حدوث كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة”.
وحمل “الإدارة الأمريكية المسؤولية الكاملة عن التداعيات الخطيرة الناجمة عن عدم التزام الاحتلال بتعهداته”، داعياً “الجهات الضامنة والأطراف الدولية إلى تحمل مسؤولياتها بشكل فاعل وقوي والضغط الجاد لضمان التنفيذ الفوري لبنود البروتوكول الإنساني، دون قيود أو شروط، وفقاً لما تم الاتفاق عليه”.
هذا الموت المسعور بكل الأدوات المتاحة لديهم ليس صدى حربٍ تقليدية، بل جريمةٌ تمتد عقوداً، تُرتكب بدمٍ بارد، وسط صمت العالم المتحضر؛ كأن غزة قُدّر لها أن تكون مسرحاً لعبثية الإنسان الحديث، حيث تُختبر حدود الوحشية، ويعاد تعريف الألم بأبجديةٍ جديدة، أبجديةٍ تكتبها أيدي القتلة ويقرؤها العالم دون أن يرمش له جفن.
ولكن، رغم كل هذا، يظل في غزة ما يكسر القاعدة. هناك، حيث تحترق الأرض، تنمو الحياة بعناد.
بين الأنقاض، تطفو أصوات الأطفال بالضحك، يرسمون على جدران الموت قصائد المستقبل. في غزة، تُصنع الحياة من اللاشيء، كأن البقاء نفسه فعل مقاومة، وكأن الابتسامة إعلانٌ عن هزيمة المحتل أمام صمود الروح.
في هذا الجزء المنسي من العالم، تتجلى المفارقة العظمى: أقصى درجات الوحشية تُواجه بأقصى درجات الإنسانية. غزة ليست مجرد جغرافيا، بل هي فكرة، فكرة أن الإنسان يمكنه أن يظل واقفاً، حتى لو أراد له العالم أن يسقط.
اضف تعليقا