أمام مرأى العالم تُرك الإنسانُ والعمران والتاريخ جميعاً نهب جريمةِ إبادةٍ جماعيةٍ بحق أبناء غزة، التي بدت وكأن بشراً لم يطأ بقدميه أرضها، بعدما أمعن الاحتلال في محو هويّة وجودها.
في ظل حرب الإبادة التي شنّتها القوات الصهيونية مستهدفةً البشر والحجر، كان لكيان الاحتلال ثأرٌ مع هذه المدينة، ليشنَّ حرباً موازية على تراث غزة وآثارها التاريخية.
تُعتبر غزة إحدى حواضر التراث الانساني والتنوع العابر للعصور، فقد تعاقب عليها الحكم الفرعوني والإغريقي والروماني والبيزنطي حتى وصلت إلى العهد الإسلامي، وقد تركت تلك الفترات والعهود خلفها الكثير من الشواهد في المدينة.
طال الحقد الصهيوني معظم المواقع الأثرية في قطاع غزّة خلال الحملة الهمجية والقصف العشوائي الذي أصاب القطاع بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023.
فترةٌ شهدت تدميرَ تاريخ أمةٍ من قِبَل احتلال لا يحترم هوية وثقافة الشعوب، ويسعى لسرقة حضارتها، إذ بيّن أخر تقرير صدر عن المكتب الإعلامي الفلسطيني في غزة، في 8 يناير الماضي، أن العدوان دمّر 206 مواقع تاريخية وأثرية خلال الحرب على غزّة، فمحى جزءاً كبيراً منه، لتبقى أطلالها شاهداً واقعياً على جريمةٍ وحشيةٍ بحق تراث وتاريخ الشعب الفلسطيني.
من أهم تلك المواقع التراثية (قلعة برقوق) التي تقع في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة والتي تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وميناء الأنثيدون (البلاخية) وهو أحد أقدم المواقع في الشرق الأوسط إذ يعود للقرن التاسع قبل الميلاد، وصنَّفته اليونسكو ضمن لائحة التراث العالمي، ودير القديس هيلاريون (تل أم عامر) الذي بني في القرن الثالث الميلادي، ودُمّر في ضربة جوية للقوات الصهيونية في تشرين الثاني 2023، والكثير الكثير غيرها من المواقع الأثرية الهامّة.
وبحسب بيان صادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في 7 أكتوبر الماضي، بمناسبة يوم التراث الفلسطيني، فإنَّ هذا التراث يواجه تهديدات جديّة بسبب السياسات الصهيونية التي تسعى إلى محوه أو سرقته، بعدما لم تكتف سلطات الاحتلال بتدمير المواقع الثقافية، بل عمدت إلى انتحال الرموز الفلسطينية، وتقديمها كجزء من سرديتها المزيفة؛ وقد أكدت الوزارة أن المعركة على التراث ليست أقل سخونة من المعارك الأخرى، بل هي جزء أساسي من الصراع على الهوية والوجود.
وحذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في وقت سابق من الانتهاك الكبير الواقع من الاحتلال الصهيوني لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف ومعاهدة لاهاي الدولية المتعلقة بحماية الإرث الثقافي.
على المقلب الآخر تتحول المواقع الأثرية الفلسطينية بالضفة الغربية إلى أكوام من الحجارة، جراء الاستهداف الممنهج من قبل القوات الصهيونية، إضافة إلى منع الاحتلال لأعمال صيانة وترميم تلك المواقع، أو إعاقتها بذرائع مختلفة، مثل فرض العوائق القانونية، أو الادعاء بأن العمل في المواقع الأثرية بحاجة إلى خبير، أو التذرع بأن تلك المواقع ليست ضمن صلاحيات عمل المؤسسات الفلسطينية، أو أنها محمية طبيعية أو منطقة عسكرية يمنع التدخل فيها، لتتلاشى تلك الأوابد الحضارية مع الوقت وتنهار بفعل العوامل الطبيعية.
هذه الإجراءات التعسفية أدَّت – وفق تأكيد وزير الثقافة الفلسطيني عماد حمدان – إلى تدهور الحالة الإنشائية لحوالي خمسين مبنى لم تُجرَ لها أي صيانة أو ترميم منذ 25 عاماً، ويوشك بعضها على الانهيار مثل مباني الشعراوي وسياج وفرّاح، الواقعة في البلدة القديمة بالخليل، إذ سقطت جدران بعض غرفها بشكل كلي، بعد منع الاحتلال لترميمها وصيانتها، والأمر ذاته حدث لعدد من المباني الواقعة شرق الحرم الإبراهيمي.
ويبقى الحفاظ على التراث جزءاً من المواجهة المفتوحة في ظل الإبادة التي يسعى إليها الصهيوني بحق التاريخ والعمق الثقافي الذي ينتمي إليه السكان الأصليون، الذين يتمسكون بهويتهم وتراثهم وحضارتهم العريقة التي لا تشبه همجية الاحتلال.
اضف تعليقا