غزة… حين يتوقف القصف ولا يتوقف الموت
في ممرّات المستشفيات الضيقة، حيث تختلط رائحة المطهّرات برائحة الخوف، تبدو غزة كمدينة خرجت من الحرب ظاهريًا، لكنها ما زالت تعيشها على وجه كل طفل، وفي صرخة كل أم، وفي يد طبيب ترتجف من الإرهاق لا من التردد. هنا، في أكثر الأماكن حاجة للحياة، يبدو الموت ضيفًا دائمًا، يتجوّل بين الأسرة الممتلئة ويتربّص بأجسادٍ أنهكها الحصار قبل أن تفتك بها الحرب.
بعد شهرٍ ونيف من إعلان وقف إطلاق النار، لم تهدأ قاعات الطوارئ، ولم تتوقف مكبرات النداء الداخلي عن طلب الأطباء في كل لحظة. فالحرب التي سكتت مدافعها ما زالت تنبض في الشرايين المتقطعة لنظام صحي يفتقر إلى الدواء، وإلى الأجهزة، وإلى الكهرباء، وإلى فرصة تنفس واحدة بلا خوف.
محمد… طفلٌ حاصرته الورقة التي لم تُوقَّع
قصة الطفل محمد عماد الذي رحل قبل أن يبلغ عامه الأول تلخّص مأساة قطاعٍ يتنفس على حافة الموت. وُلد بتشوّه في القلب، وقال الأطباء إن حالته تحتاج إلى تدخل عاجل في الخارج. لكن الحصار كان أسرع من الأمل.
يحكي والده بصوتٍ يتهدّج: “حاولنا مرتين السفر عبر مصر… الاحتلال رفض دون تفسير. وفي المرة الثالثة، كان المعبر مغلقًا. محمد مات قبل أن يأتي دوره.”
لم يمت محمد بسبب القصف، بل بسبب الورقة التي لم تُوقّع، والمعبر الذي لم يُفتح، والوقت الذي نفد قبل أن يُعطى فرصة للنجاة.
هذه ليست حالة فردية؛ إنّها مأساة تتكرر كل يوم. فحسب مصادر طبية في غزة، 40% من طلبات التحويل الطبي تُرفض أو تؤجَّل لأشهر، ليموت المرضى قبل الوصول إلى العلاج.
أرقام تتحدث بلسان العجز
قطاع غزة اليوم يقف على أنقاض منظومة صحية منهارة. مدير مستشفى الشفاء، الدكتور محمد أبو سلمية، يقول إن الموت ما زال يحصد أرواحًا يمكن إنقاذها: “غرف العناية تعمل في ظروف غير إنسانية. الأدوية الأساسية غير متوفرة… والكهرباء تنقطع مرات لا تُعد.”
الأرقام صادمة: وفيات حديثي الولادة ارتفعت من 9 إلى 50 وفاة لكل ألف مولود خمسة أضعاف ما قبل الحرب، وفيات الأمهات الحوامل قفزت من 27 إلى 145 حالة لكل 100 ألف ولادة.
نقص حاد في أدوية الأمراض المزمنة والمضادات الحيوية والمستلزمات الجراحية، ارتفاع مخيف في الولادات المبكرة والتشوهات الخلقية بسبب سوء التغذية والضغط النفسي.
يقول أبو سلمية: “هذه المؤشرات ستترك ندوبًا على أجيال كاملة… إننا أمام كارثة إنسانية مستمرة.”
المستشفيات… أماكن للنجاة المؤقتة لا للعلاج الحقيقي
في أروقة المستشفيات، طفل ينتظر عملية لا تتوفر لها المعدات، أم تحتضن ابنها الجريح بانتظار دور قد لا يأتي، وآخرون يقاومون الموت فقط لأن الكهرباء تعطّلت، أو لأن زجاجة دواء لم تدخل، أو لأن معبرًا بقي مغلقًا.
الحرب انتهت على الورق، لكنّ الموت يواصل عمله بصمت. لم يعد يأتي بالصواريخ، بل بالانهيار البطيء، وبالعجز، وبما تبقّى من آثار حربٍ التهمت كل شيء إلا الألم.
إغلاق المعابر – كما يقول مدير الشفاء – لم يعد مجرد إجراء سياسي، بل جدارًا يُقام بين المرضى وحياتهم. فحتى وقف إطلاق النار لم يفتح أبواب العلاج، ولم يُدخل ما يحتاجه القطاع من أجهزة ودواء.
يؤكد أبو سلمية: “فتح المعابر ضرورة للبقاء، لا للمساعدة. الوقت ينفد… كل يوم نخسره يعني حياة تُقطع قبل أوانها.”
وقف النار لا يعني وقف النزف
غزة اليوم ليست مدينة تتعافى، بل مدينة تحاول النجاة من مرحلة ما بعد الحرب، الناس فيها بحاجة إلى الكهرباء بقدر حاجتهم إلى الأدوية، وإلى الأمل بقدر حاجتهم إلى الطعام.
فوقف إطلاق النار أوقف الرصاص، لكنّه لم يوقف الجرح المفتوح، ولا الألم المتراكم، ولا الموت الذي ما زال يتجوّل في المستشفيات كل يوم.
محمد رحل… لكن قصته، كما يقول والده، “يجب أن تُروى حتى لا يموت أطفال آخرون بالطريقة نفسها.”
وغزة – رغم كل ما فقدته – ما زالت تبحث عن الحياة، لا بوصفها حقًا مؤجّلاً، بل ضرورةً آنية لإنقاذ من بقي من أبنائها.


