في عيد الميلاد.. غزة تضيء شمعتها في وجه العتمة
في قطاعٍ ما زال يلملم ما تبقى من أنفاسه بعد حرب الإبادة المدمرة، ارتفعت شمعة الميلاد داخل كنيسة العائلة المقدّسة في غزة كأنها نافذة صغيرة على الضوء، لا تكتفي بإعلان موسمٍ دينيّ، بل تُعلن إرادة الحياة نفسها. في قلب مدينة أنهكها الدمار والحصار ومحاولات التهجير، تحوّل القداس إلى فعل صمود، وإلى رسالة تقول إن أهل غزة، بمختلف طوائفهم وأديانهم، باقون على أرضهم مهما اشتدّ الظلام.
الاحتفال لم يكن حدثًا طقسيًا فحسب. الكنيسة التي احتضنت خلال العدوان عشرات العائلات النازحة من مسلمين ومسيحيين وأصيبت مرافقها الخارجية بأضرار جسيمة، عادت لتفتح أبوابها وسط حضور محدود، في أول صلاة جماعية منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. كأن المكان، الذي ظلّ أشهر طويلة محاصرًا بالقصف والانفجارات وتساقط الزجاج وتشقّق الجدران، قرر أن يقاوم بطريقته الخاصة: وقفة هادئة، مهيبة، تقول إن الروح لا تموت.
زيارة تُعيد الوصل بين غزة والقدس
قبل إشعال شمعة الميلاد، جاءت زيارة رعوية حملت معها ما يشبه استعادة الرابط بين غزة والقدس. زيارة امتدت ثلاثة أيام شملت تفقد المشاريع الإنسانية والالتقاء بأبناء الرعية، في إشارة واضحة إلى أن الغياب لم يكسر العلاقة، وأن غزة ليست هامشًا بعيدًا في خريطة الحضور المسيحي، بل جزء أصيل من جسد روحي واحد. الأطفال الذين استقبلوا الوفد بأغانٍ ميلادية بسيطة أعادوا للمكان شيئًا من الفرح، رغم الركام والمرارة التي تحاصر كل زاوية.
كانت كلمات الزيارة محمّلة بإحساس مختلف هذه المرة، إذ بدا أن ثمة فسحة صغيرة من الراحة وسط المشهد القاسي، وأن الأمل ما زال يجد طريقه من خلال الأطفال والمدرسة والأنشطة المجتمعية. رسالةٌ جاءت من قلب غزة إلى العالم: ما زال هنا شعب يتشبّث بالحياة، لا بما تبقّى من الحجر، بل بما بقي في الروح.
ميلاد يعيد تعريف البقاء
خلال القداس، برزت فكرة محورية، المرحلة الحالية ليست مجرد محاولة للنجاة من الحرب، بل بداية لمسار إعادة بناء الحياة. الميلاد، بما يحمله من رمزٍ للنور والحنان والرحمة، أصبح مرآة لواقع أهل غزة اليوم. قصة ولادة المسيح في ظروف قاسية بلا مأوى تشبه ما يعيشه سكان القطاع، الذين يواجهون برد الشتاء وغياب السقف وفقدان البيوت، لكنهم رغم ذلك يواصلون التشبث بما يصنعه الناس بخياراتهم وثباتهم، لا بما تفرضه القوة والإمبراطوريات.
تلك الروح عبّرت عن قناعة بأن إعادة الإعمار لا تبدأ من الحجارة، ولا من المدارس والبيوت، بل من شفاء القلوب أولًا. فالمحبة كما قيل خلال القداس هي وحدها القادرة على إعادة بناء ما دمّرته الحرب، وعلى حماية ما تبقى من نسيج مدينة تتنفس بالكاد، لكنها ترفض أن تموت.
ومع أن المسيحيين في غزة لا يتجاوز عددهم بضع مئات، إلا أن حضورهم جاء متجذرًا، ثابتًا، غير قابل للذوبان. ليسوا وجودًا هامشيًا، بل جزءًا أصيلًا من حياة المدينة. رسالتهم، وقد تلاقحت مع رسائل المسلمين في المكان نفسه، تقول إن غزة واحدة تتجاوز الطوائف، وأن الصمود هو الهوية الجامعة.
وحدة الألم… ووحدة الرسالة
لم يكن القداس منفصلًا عن جراح غزة الأوسع. البيان المشترك لعدد من رجال الدين لم يكتفِ بوصف الألم، بل وسّعه ليشمل غزة والضفة على حدّ سواء، من اغتيالات واعتقالات وهدم منازل ومصادرة أراضٍ واعتداءات المستوطنين. وأعاد التذكير بأن الاحتفال الحقيقي لا يكون بانقطاع الألم، بل بالإصرار على الحياة رغم الألم. “النور سينتصر في النهاية”، جاءت الجملة كاستشهاد وحيد، لكنها حملت ثقل سياق كامل عن الظلم، وعن انتظار عدالة غائبة لا بد أن تأتي.
كنيسة من حجر… وشعب من نور
كنيسة العائلة المقدّسة في غزة لم تكن مجرد مبنى مبقّى تحت القصف. كانت ملجأ، وبيتًا للناجين، وشاهدًا على لحظات الخوف والجوع والبرد. محيطها الذي ظل لأشهر منطقة غير آمنة عاد يستقبل العائلات والأطفال، لا من باب الطقوس فقط، بل من باب الإصرار على أن المكان ما زال حيًا.
وفي كل تفاصيل الحرب من تشقق الجدران، إلى تحطّم النوافذ، إلى سقوط الشظايا بالقرب من المصلين ظلّ هناك ما يشبه نبضًا يقول إن القصف لا يستطيع أن يمحو الحضور الإنساني. المؤمنون الذين لجؤوا إلى الكنيسة مسلمين ومسيحيين جسّدوا وحدة أصيلة لا تحتاج إلى شعارات. وحدة تُكتب بالألم المشترك، وبفكرة بسيطة مفادها: أن تكون إنسانًا أولًا.
بهذا المعنى، لم يكن قداس الميلاد في غزة طقسًا دينيًا بقدر ما كان شهادة على مدينة ترفض الانكسار. شمعةٌ واحدة أُضيئت داخل كنيسة العائلة المقدّسة صارت أكبر من رمزٍ ديني؛ صارت إعلانًا بأن غزة بمسيحييها ومسلميها تعيش رغم الحرب، وتقاوم رغم الحصار، وتُشعل نورها في وجه الظلمة. ميلادٌ يقول إن الحياة أقوى من الركام، وإن الإيمان بالبقاء هو أولى خطوات الانتصار على الموت.



