بين الركام والبرد… عودة قسرية إلى منازل لا تصلح للحياة في غزة
لم يكن وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول بوابة نجاة لسكان غزة بقدر ما كان هدنة معلّقة على حافة الخطر. فمع تلاشي أصوات القصف، وجد آلاف النازحين الفلسطينيين أنفسهم أمام خيار واحد لا ثاني له: العودة إلى مبانٍ متضررة، متشققة، ومهددة بالانهيار، بحثًا عن مأوى يقيهم برد الشتاء وأمطارٍ لا ترحم، بعدما أثبتت الخيام عجزها عن توفير الحد الأدنى من الأمان.
هكذا تحولت الجدران المتصدعة والأسقف التي تتدلّى منها قضبان الحديد وكتل الإسمنت إلى “ملاجئ اضطرارية” لعائلات كاملة، تضم أطفالًا ورضّعًا وكبار سن، في ظل غياب أي بدائل حقيقية، ومنع متواصل لإدخال البيوت المتنقلة (الكرفانات) التي كان من شأنها أن تخفف حدّة الكارثة الإنسانية المتفاقمة.
مأوى يتحول إلى تهديد
مع كل منخفض جوي يضرب القطاع، تتضاعف المخاطر. الرياح العاتية والأمطار المتواصلة تتسلل إلى الجدران الهشة، فتُضعف ما تبقى من تماسكها. وقد تجسّد هذا المشهد المأساوي حين أدى انهيار جزئي لمبنى غرب مدينة غزة إلى استشهاد فلسطيني وإصابة أربعة آخرين، بالتزامن مع غرق وتطاير آلاف الخيام بفعل منخفض عاصف ضرب القطاع.
وكان ذلك المنخفض هو الثاني خلال أقل من أسبوع. أما الأول، فقد خلّف 14 شهيدًا، بينهم 11 قضوا جراء انهيار أكثر من 13 مبنى متضرر، وثلاثة بسبب البرد القارس، فضلًا عن تضرر وغرق نحو 53 ألف خيمة كليًا أو جزئيًا، وفق معطيات رسمية. أرقام لا تحكي عن طقسٍ قاسٍ فحسب، بل عن حياة تُسحب من أصحابها ببطء.
المتحدث باسم الدفاع المدني، محمود بصل، حذّر من خطر انهيار آلاف المباني المتضررة بفعل اشتداد الرياح والأمطار، مطالبًا بتدخل دولي عاجل لإدخال ملاجئ آمنة، محذرًا من موت محتمل يهدد السكان في أي لحظة.
دمار بلا أفق
خلال عامي الإبادة، دُمّرت كليًا نحو 268 ألف وحدة سكنية في قطاع غزة، وأُلحِق دمار بالغ غير صالح للسكن بـ148 ألف وحدة أخرى، إضافة إلى تضرر جزئي لـ153 ألف وحدة، بحسب أحدث معطيات المكتب الإعلامي الحكومي. هذا الدمار، الذي طال قرابة 90% من البنية التحتية المدنية، جعل العودة إلى المنازل حلمًا بعيد المنال، حتى بعد وقف إطلاق النار.
ورغم الاتفاق، تواصل إسرائيل في مناطق خاضعة لسيطرتها نسف وتفجير ما تبقى من منازل، في سلوك يُبدّد آمال السكان بالعودة الآمنة، ويحوّل الهدنة إلى انتظارٍ ثقيل على أنقاض بيوت لم تعد تصلح للحياة.
خيار قسري لا بديل له
في مجمع “مدينة حمد” السكني جنوب القطاع، تحكي هيام أبو ندى عن انتقال عائلتها إلى مبنى متضرر بعد نزوحها من حي الشجاعية. تقول إن انعدام البدائل أجبرهم على هذا الخيار، رغم سماعهم اليومي لأصوات “انهيارات صغيرة” داخل الجدران بفعل تسرب المياه، مضيفة أن ما تبقى من الجدران لا يقيهم الصقيع.
زوجها مصطفى يؤكد أن هذه المباني لا تشكل ملجأً آمنًا، وأنهم يعيشون تحت تهديد الانهيار المفاجئ، فيما أصيب أطفالهم بأمراض نتيجة البرد والرطوبة. ويشاركه الرأي عوني الحاج، أحد سكان المنطقة، الذي يرى أن الحياة في الخيام باتت مستحيلة، وأن غالبية المباني مهددة بالسقوط، ما يستدعي تدخل الدفاع المدني بشكل دائم لإزالة الكتل الإسمنتية المتدلية.
فتحية عبيد، التي فقدت زوجها خلال الحرب وأُسر نجلها، تصف هذه الأماكن الخطرة بأنها الملاذ الأخير، رغم وجود رضيعة داخلها، تعيش مع العائلة على إيقاع الخوف من كل منخفض جوي.
وفي غرب مدينة غزة، قرب مركز رشاد الشوا الثقافي المدمّر، تعيش حليمة اسليم وأطفالها داخل خيمة نُصبت تحت سقف مبنى متضرر. تصف ليالي الشتاء هناك بأنها “رعبٌ دائم”، حيث تقضي ساعات الليل متيقظة خشية انهيار مفاجئ، في مكان ظنّته ملاذًا فإذا به مصدر خوف.
محاولات بدائية للبقاء
في خان يونس، تحاول عائلة محمد الشاعر إعادة بناء غرفة بالطين والحجارة الملتقطة من الركام، بعد أن فشلت الخيام في حمايتهم. غياب الإسمنت نتيجة إغلاق المعابر دفعهم لاستخدام الطين، رغم معرفتهم بأنه يذوب مع الأمطار، ما يجعل الغرفة مهددة بالانهيار في أي لحظة.
أمام هذا المشهد، تجلس “أم عماد”، التي فقدت ثلاثة من أبنائها وأُسر الرابع، تطهو على الحطب بدل غاز الطهي، قائلة إن الحرب أعادتهم قرنًا إلى الوراء. بين رصاصٍ عشوائي وخطر انهيار، يعيشون على حافة الموت المؤجل.
في غزة، لم تنتهِ الحرب مع وقف إطلاق النار، بل غيّرت شكلها. صارت تختبئ في الجدران المتشققة، وفي الأسقف المعلقة، وفي برد الشتاء الذي يقتحم الأجساد بلا استئذان. آلاف العائلات عالقة اليوم بين الركام والخيام والموت المحتمل، فيما يتنصل الكيان الغاصب من التزاماته، وعلى رأسها فتح المعابر وإدخال نحو 300 ألف خيمة وبيت متنقل.
هنا، لا يُقاس الخطر بصوت الانفجار، بل بصمت الانهيار. وفي انتظار تدخلٍ دولي جاد، يواصل سكان غزة العيش في معادلة قاسية: النجاة ليوم آخر، داخل بيوت لا تصلح للحياة، لكنّها الخيار الوحيد للبقاء.


