البوستر الرئيسي للحملة الإعلامية.. مع فلسطيناليوم الدولي للتضامن مع القضية الفلسطينية

في يومهم العالمي.. ذوو الإعاقة في غزة بين الركام والانتظار

في يومهم العالمي، لا يطلّ ذوو الإعاقة في غزة كعنوانٍ إنساني عابر، بل كمرآةٍ دامية لحربٍ لم تكتفِ بقتل الحياة، بل مزّقت ما تبقّى من القدرة على الوقوف في وجه الألم. هناك، حيث تتقاطع الأنقاض مع الأجساد، ويمتزج الغبار بآهات الجرحى، وُلد واقعٌ جديد لا تصنعه الطبيعة، بل تصنعه القذائف، ويعمّده الحصار، وتطيله يد الإهمال الدولي.

ولادة الإعاقة من رحم النار

الحرب التي شُنّت على غزة خلّفت واحدة من أوسع موجات الإعاقات في تاريخ الصراع، بفعل استخدام قوة نارية غير مسبوقة وأسلحة شديدة التدمير في مناطق مكتظة بالسكان. غير أن النار والبارود لم يكونا وحدهما سبب العجز، بل كان انهيار النظام الصحي شريكًا صامتًا في استكمال المأساة. مستشفيات مُدمّرة، غرف عمليات بلا كهرباء، نقص حاد في الأطقم الطبية والمستلزمات الجراحية، وغياب شبه كامل لبرامج التأهيل… كل ذلك حوّل إصابات قابلة للعلاج إلى إعاقات دائمة، تحوّل معها الجرح إلى قدرٍ مفتوح.

في هذا المشهد القاسي، يصف الناشط المختص بحقوق الجرحى وذوي الإعاقة ظريف الغرة الواقع الجديد باعتباره أحد أكثر الملفات الإنسانية وحشية وإهمالًا بعد الحرب. آلاف الجرحى يعيشون بلا أطراف صناعية، بلا جلسات علاج طبيعي، بلا أمل واضح في استعادة الحد الأدنى من وظائف الجسد. الإعاقة، كما يقول، لا تتراجع؛ بل تترسخ يومًا بعد يوم، وتتحول من حالة طبية إلى مأساة اجتماعية واقتصادية مركبة.

أجساد مبتورة… وبيوت منهكة

حالات البتر وحدها شكّلت زلزالًا في البنية المجتمعية. أطفال فقدوا أطرافهم في عمرٍ يفترض أن يكون ملعبه الحياة لا سرير المستشفى. شباب كانوا عماد أسرهم أصبحوا غير قادرين على المشي أو العمل، فتصدّعت البيوت تحت ثقل الفقد والعجز معًا. الشلل بأشكاله المختلفة صار رفيقًا دائمًا لمئات الحالات التي لم تصل إلى العلاج الفوري، فيما إصابات بسيطة، كان من الممكن احتواؤها، تحوّلت إلى عجزٍ أبدي بسبب انهيار القطاع الصحي.

ولا يتوقف الألم عند حدود الحركة. الإعاقات الحسية، خصوصًا فقدان البصر والسمع، تضرب المصابين في صميم أدواتهم للتواصل والتعلّم، في بيئة تفتقر أصلًا لأي بنية تعليمية أو خدمات تأهيلية مناسبة. أما التشوهات الخطيرة في الوجه والجسد، فقد دفعت كثيرين إلى عزلة اجتماعية قاسية، زادها غياب الدعم النفسي المتخصص حدّةً وظلمة.

على المستوى النفسي، تحوّلت اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق الحاد إلى إعاقات صامتة تجتاح سلوك الأطفال وتوازنهم النفسي، في غياب الروتين والأمان والاحتواء. حتى المرضى المزمنون لم يسلموا؛ فـانقطاع الأدوية الأساسية أدّى إلى وفيات وتفاقم إعاقات لدى مصابين بالصرع وضمور العضلات، في سباق مؤلم مع الزمن من أجل جرعة دواء قد لا تصل.

طب تحت الضغط… وقرارات بلا بدائل

من داخل غرف الطوارئ المنهكة، يكشف مدير عام وزارة الصحة في قطاع غزة منير البرش حجم التحدي الطبي غير المسبوق الذي تواجهه الطواقم الصحية، لا سيما أمام تضاعف حالات البتر بشكل هائل منذ بداية حرب الإبادة. ظروف قاسية وضعت الأطباء أمام قرارات موجعة، حيث أصبح البتر في كثير من الأحيان الخيار الوحيد لإنقاذ الحياة، في ظل غياب الأدوية والقدرات الجراحية اللازمة.

نقص حاد في المضادات الحيوية، ومنع إدخال أصناف أساسية وطارئة، وانتشار الميكروبات المقاومة للعلاج، كل ذلك دفع الأطباء إلى حلول اضطرارية قاسية. ومع خروج نحو نصف مستشفيات القطاع عن الخدمة، وتوقف عدد كبير من مراكز التأهيل والعلاج الطبيعي، تعطّلت برامج إعادة تأهيل الجرحى الذين يحتاجون رعاية طويلة ومستمرة.

الأرقام هنا لا تُحسن الكذب، 6000 حالة بتر مسجّلة منذ بداية الحرب، بينهم أطفال ونساء وشباب. 42 ألف جريح بإصابات غيّرت مجرى حياتهم بالكامل، بين بتر وشلل وإعاقات حركية وحسية. أكثر من 12,500 مريض وجريح بحاجة إلى سفر فوري لاستكمال علاج لا يمكن توفيره داخل القطاع، خصوصًا إصابات العمود الفقري والحروق العميقة وحالات البتر المعقّدة. ومع ذلك، تبقى معظم طلبات الإخلاء عالقة، بفعل المماطلة في منح التصاريح، رغم رفعها عبر آليات طبية دولية. مئات الأطفال قضوا وهم ينتظرون ورقة عبور، في مشهد يصفه البرش بأنه حكم بالإعدام ببطء.

إعاقة مضاعفة… حين يعجز الجسد ويُحاصر الأمل

في غزة اليوم، الإعاقة ليست مجرد فقدان عضو أو عجز وظيفة، بل فقدان منظومة كاملة من الدعم: طب، تأهيل، تعليم، عمل، حماية اجتماعية، وأمل في غد أقل قسوة. البحث عن كرسي متحرك يتحول إلى معركة، وجلسة علاج طبيعي تصبح حلمًا مؤجّلًا، وتركيب طرف صناعي يحتاج طريقًا شاقًا من الانتظار والحصار.

وسط هذا المشهد، تتعالى الدعوات لإنشاء صندوق دولي دائم لإعادة تأهيل ذوي الإعاقة، لإدخال الأطراف الصناعية والمستلزمات الطبية، وفتح ممرات آمنة لسفر الجرحى، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستقبل آلاف الأجساد المحطمة.

في يومهم العالمي، لا يرفع ذوو الإعاقة في غزة شعارات الاحتفال، بل يرفعون أجسادهم المثقلة بما تبقى من حياة، ويقفون بما استطاعوا شاهدين على حرب لم تكتفِ بإنتاج الموت، بل صدّرت العجز إلى المستقبل. الإعاقة في غزة ليست قدرًا بيولوجيًا، بل نتيجة مباشرة للنار والحصار والانهيار والإهمال. إنها اختبار حقيقي لضمير العالم: إمّا أن يتحرك لإنقاذ هذه الأرواح من السقوط النهائي في هاوية العجز الدائم، أو يكتفي بالمشاهدة… ويضيف صفحة جديدة إلى سجل الصمت الطويل.

Share This Story, Choose Your Platform!