على رصيف السوق… أمّ تُرمّم النقود لتقاوم الحصار في غزة
وسط ركام الحرب وضيق العيش، حيث تتآكل الأوراق النقدية كما تتآكل تفاصيل الحياة اليومية، تنصب منال السعدني طاولتها الصغيرة كل صباح كمن ينصب خيمة أمل فوق أنقاض الحصار. تحوّلت هذه الطاولة المتنقلة إلى ورشة نقّالة لترميم النقود المتهالكة في قطاع غزة، حيث لم تدخل أوراق نقدية جديدة منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين.
تحمل منال طاولتها من مخيم البريج إلى سوق النصيرات في وسط القطاع، تمشي بين الركام لتصنع من رصيف السوق مساحة عمل، تؤمّن منها قوت يومها وقوت بناتها. بأدوات بسيطة: شفرة مشرط، قليل من الغراء، ولوح زجاجي، تبدأ رحلة إنقاذ الورق الممزّق من الرفض والتلف.
“قررت العمل وبدأت بتصليح الأوراق النقدية… الناس في الشارع ساندوني كثيرًا”، تقول منال وهي تتنقّل بين زبون وآخر. يمدّون لها أوراق العشرين شيكل التالفة فتصلحها مقابل شيكل أو شيكلين. فالشيكل، العملة الأساسية المتداولة، أصبح نادرًا أكثر من أي وقت مضى، بعد أن شدّد الاحتلال حصاره ومنع دخول الأموال إلى غزة.
نقود تالفة… وأسواق ترفضها
الأوراق المتداولة اليوم في قطاع دمّرته الحرب وهُجّر معظم سكانه قسرًا، باتت بحالة يُرفض قبولها في كثير من المحال. تتسلم منال الورقة المتشققة، تدخل الغراء في شقوقها بدقة، تلمّعها بأصابعها، ثم ترفعها نحو الضوء لتفحص ما تبقى من حياتها الورقية.
وعندما تبلغ الورقة حدًّا ميؤوسًا من إصلاحه، تمزح منال مع الزبائن: “هاتان اذهب واشترِ بهما البسكويت”، ثم تعيد ورقتين من فئة العشرين لا يمكن إنقاذهما.
تقول الزبونة نبيلة جنّار إن معظم الأوراق تالفة، وإن التجار يرفضون التعامل بها، ما يضطر الناس إلى ترميمها مقابل شيكلين للعشرين وثلاثة شيكلات للخمسين. وتضيف بحسرة: “يجب أن يجدوا حلًا… المال صار مشكلة بحد ذاته”.
ألوان تعيد الحياة إلى الورق
تستخدم منال طباشير ملوّنة لإعادة شيء من البريق إلى الأوراق: الأحمر للعشرين، الأخضر للخمسين، البرتقالي للمئة، والأزرق للمئتين. ألوان تحاول بها أن تمنح الورق المتهالك ملامح “قابلية للعيش” في سوق فقد أبسط شروط التداول السليم.
لكن خلف هذا الجهد اليومي تقف أمّ أنهكها التعب. تتنهّد منال قائلة: “لأنني امرأة، الجميع يقف إلى جانبي ويدعمني… لكنني تعبت. ألا يحق لي أن أرتاح يومًا مع بناتي بدل هذا العذاب؟”.
أزمة سيولة تشلّ الاقتصاد
أزمة الكاش في غزة لم تعد تفصيلًا عابرًا في حياة الناس، بل باتت أحد أبرز مظاهر الشلل الاقتصادي. تُباع الأوراق النقدية نفسها اليوم بعمولة قد تصل إلى 34% بسبب ندرتها، فيما تعاني الأسواق شحًّا كبيرًا في الفكة والعملات الصغيرة التي يعتمد عليها الباعة والمواصلات.
تقارير دولية تؤكد عمق الكارثة الاقتصادية؛ فقد أشارت الأمم المتحدة إلى أن الحرب أعادت غزة سبعين عامًا إلى الوراء في مسار التنمية البشرية، فيما كشف البنك الدولي أن 93% من فروع المصارف في القطاع دُمّرت، إضافة إلى معظم مؤسسات التمويل الأصغر وشركات التأمين.
اقتصاد على حافة الانقسام
يرى اقتصاديون أن استمرار هذا الوضع يهدّد بنشوء اقتصاد مشوَّه مزدوج داخل القطاع: أحدهما نقدي قائم على أوراق تالفة، والآخر إلكتروني محدود لا يستطيع وحده أن يحمل أعباء حياة كاملة تحت الحصار.
وبرغم توسّع منصات الدفع الإلكتروني، يؤكد التجار أن أسواق غزة لا تزال بحاجة ماسة إلى التعامل النقدي المباشر في ظل انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصال وارتفاع كلفة البدائل.
منال… صورة أخرى لمقاومة الحياة
بين شقوق الأوراق النقدية التي تلصقها منال، تتسرّب حكاية أخرى من حكايات الصمود الصامت في غزة. ليست مقاتلة في الميدان، لكنها تقاوم بالعمل، وبالطحين الذي تشتريه من أجر إصلاح ورقة، وبالخبز الذي تحمله إلى بناتها آخر النهار.
في غزة، حيث يُعاد ترميم كل شيء بالحاجة… حتى النقود، تتحوّل أصابع أمّ بسيطة إلى أداة إنقاذ في معركة البقاء.


