مع فلسطين.. ذاكرة التضامن العالمي بعد حرب الإبادة
من تحت ركام غزة، وبين هدير الطائرات وأصوات الاستغاثة، خرج صوت الشعوب عاليًا يزلزل صمت العالم. لم تكن الدماء وحدها التي سالت، بل تحرّكت معها ضمائر حيّة ترفض أن تُختطف الإنسانية على أيدي القتلة. كانت حرب الإبادة على غزة مرآة قاسية كشفت الوحشية، لكنّها في المقابل أيقظت وجدانًا عالميًا صلبًا، بات يهتف: لن تُترَك فلسطين وحدها.
في الشوارع الكبرى لعواصم العالم، وُلد مشهد مغاير. احتشدت الجموع في لندن ومدريد ونيويورك وسيدني، يهتفون للحرية ويدينون المجازر. لم يكن التضامن عاطفة عابرة، بل فعلًا شعبيًا وسياسيًا آخذًا في التوسّع. في مدريد ارتفعت الهتافات المندّدة بالإبادة، وفي بوليفيا وصلت المواقف إلى حدّ قطع العلاقات مع الكيان الغاصب، بينما أوقف عمال الموانئ في إيطاليا شحنات الأسلحة، في خطوة جسّدت انتقال التضامن من الشارع إلى ساحات القرار.
وبرز “أسطول الصمود العالمي” كأبلغ تعبير عن ضمير الشعوب. أكثر من 40 سفينة حملت على متنها مئات النشطاء من 44 دولة أبحروا نحو غزة لكسر الحصار، ليتعرّضوا لاعتراض عدواني من الكيان الغاصب في عملية وصفتها الأمم المتحدة بالقرصنة. كان الردّ عالميًا: مظاهرات صاخبة واعتصامات رافضة اختطاف المتضامنين. لم يعد الحصار ماديًا فحسب، بل معركة أخلاق ضد الطغيان.
وفي إيطاليا، انفجر غضب الشعب بإضراب عام هو الأوسع منذ عقود. توقفت حركة النقل، أغلقت الموانئ، وتعالت أصوات العمال: “لن نكون شركاء في القتل”. أما في إسبانيا، فقد صعد موقف الحكومة رسميًا، حين صرّح رئيس الوزراء سانشيز أن ما يحدث في غزة هو “حرب إبادة”، داعيًا إلى حظر تصدير السلاح للكيان الغاصب، في سابقة أوروبية نادرة.
هكذا صاغت الشعوب روايتها، وفرضت خطابها الأخلاقي. تحوّلت غزة إلى اختبار كوني، والضمير العالمي إلى شاهد حيّ على جريمة موثّقة بالصوت والصورة. وما كان بالأمس تعاطفًا، صار اليوم إرادة جماعية لا تُقهر.
في زمنٍ تترنّح فيه القيم أمام طغيان القوة، أعادت فلسطين للعالم وجهه الأخلاقي. تكتب الشعوب من قلب الميادين وصوت السفن وهتاف الموانئ، أن التضامن ليس شعارًا، بل عهدٌ إنساني لا يُنكَر. بعد حرب الإبادة، وُلدت ذاكرة عالمية جديدة… ذاكرة لا تعرف الصمت، بل تُجيد قول: “مع فلسطين… إلى أن تُشرق الحرية”.



