الضفة الغربية… أرضٌ يلتهمها الإسمنت وتقاومه الذاكرة
في الضفة الغربية، لا يحتاج المشهد إلى عدسات تحليل سياسي كي يُفهم؛ يكفي أن تنظر إلى سفح جبل أو وادٍ يمتدّ نحو الأفق، لتدرك أن الأرض نفسها تتعرض لاقتلاعٍ بطيء. هنا، حيث تتشابك كروم الزيتون مع ذاكرة القرى القديمة، يتقدّم الإسمنت الصهيوني كظلٍّ ثقيل، يمدّ أذرعه فوق الجبال والوديان، كأنه يريد محو ملامح المكان ليقيم مكانها وجهًا دخيلًا لا يشبه تاريخ الأرض ولا أهلها.
تتقدّم الجرافات، تُغيّر شكل التلال، وتُقام الطرق الالتفافية التي تشقّ صمت الجبال، فيما تقف القرى الفلسطينية كجزر صغيرة تصارع أمواجًا من الإسمنت تتزايد بلا توقف. هذه الأرض التي حملت أشجار الزيتون منذ مئات السنين، تُقتلَع اليوم لتُستبدل بأسوارٍ وأسقف حديدية.
مشروع يُعاد رسمه على الأرض… لا على الورق
يقول مراقبون ميدانيون إن أكثر من 60% من الضفّة باتت هدفًا لعمليات التوسّع العمراني التي ينفذها الكيان الغاصب. عشرات البؤر الاستيطانية تُشرعن تباعًا، وكتل ضخمة تُوسَّع، وطرقٌ طويلة تمتدّ بطول التلال، تربط المستوطنات ببعضها وتفصل القرى الفلسطينية عن بعضها الآخر.
في العام الأخير وحده، تم الإعلان عن أكثر من 9,000 وحدة استيطانية جديدة، إلى جانب خطة لتحويل 70 بؤرة عشوائية إلى مستوطنات معترف بها، رقم يكشف حجم الزحف الذي يبتلع الأرض، بينما تُمنع التجمعات الفلسطينية من البناء أو التوسع ولو مترًا واحدًا.
التكتلات الاستيطانية الكبرى “أريئيل”، “معاليه أدوميم”، “غوش عتصيون” تكبر وتتمدد، وترتبط بخطوط مواصلات استراتيجية يشقّ أراضي القرى الزراعية ويصادر مساحات واسعة من الحقول تجعلها امتدادًا طبيعيًا للمدن في الداخل المحتل. هكذا يُقطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، وتُحوّل القرى الفلسطينية إلى جزر محاصرة.
قرى محاصرة… ومزارعون يُمنعون من حقولهم
الظاهرة الأكثر وضوحًا في الأشهر الأخيرة هي ما يصفه الأهالي بـ “الاستيطان الزاحف”: توسع يومي لا يتوقف، حفرة هنا، سياج هناك، مستوطنون يمنعون المزارعين من دخول أراضيهم، وجرافات تغيّر شكل الجبال دون إعلان مسبق.
في محيط سلفيت، جنوب نابلس، وشرق رام الله، يعيش المزارعون حالة خنق عمراني مباشر. كثيرون منهم باتوا يصلون إلى أراضيهم “كضيوف” إن سمح لهم، وسط تضييق متواصل يمنعهم من الاعتناء بأشجار الزيتون التي ورثوها عن أجدادهم.
وتؤكد شهادات ميدانية أن المستوطنات الصغيرة يجري ربطها تدريجيًا ببعضها، ما يخلق أحزمة عمرانية تُحاصر القرى الفلسطينية وتلتهم المساحات المفتوحة بين الجبال.
سرقة للأرض لا تبحث عن غطاء
ما يجري على أرض الضفة ليس بحاجة إلى تفسير: الأرض تُقتلع والخرائط تتغيّر والمكان يُعاد تشكيله ليخدم غير أهله.
لا قانون يتيح للفلسطيني أن يبني بيته، بينما يمنح المستوطنات تراخيص جاهزة وتوسعات فورية. لا طرق جديدة تخدم القرى، بينما تشقّ الطرق بين التجمعات الاستيطانية بسرعة مذهلة.
في الضفة الغربية المحتلة، يمكن أن تُغلق الطرق، وأن تُصادر الأراضي، وأن تُقطع الجبال، لكنّ الأرض التي عاشت عليها أجيال لم تنسَ أصحابها.
الاستيطان قد يخنق المكان، لكنّه لا يقتل الذاكرة، والإسمنت قد يتمدّد، لكنّه لا يمحو جذور الزيتون، فالضفّة، رغم كل ما يزحف فوقها، ما زالت تنبض باسم أهلها. وما زالت تقول، بصمتٍ لا تخطئه العين: الأرض تُسرق… لكنها لا تُسلّم.


