غزّة... الأرض التي كانت خضراء تصحو على المجاعةغزّة... الأرض التي كانت خضراء تصحو على المجاعة

الأطفال يكتبون الحياة من تحت الركام في غزّة

في مدينةٍ أنهكتها الحرب وتثقلها ذاكرة القصف، يولد من بين الرماد مشهدٌ مختلف: أطفالٌ يعودون إلى مقاعد الدراسة بعد عامين من الإبادة والحصار. يعودون كما لو أنهم يشقّون طريقًا نحو الحياة بين أنقاض مدارسهم القديمة، يحملون دفاتر ممزّقة لكنها ما زالت تحتفظ بمساحةٍ صغيرة للحلم.

في مدرسة دير البلح الأساسية المشتركة التابعة للأونروا، تلك التي كانت بالأمس مأوى للنازحين يُقرع الجرس من جديد. لا مقاعد جديدة، ولا جدران خالية من آثار الشظايا، لكن الأصوات الصغيرة تملأ المكان: ضحكاتٌ مترددة تصرّ على أن تبدأ الحكاية من جديد.

تقول الطفلة لمى أبو العطا، وهي تمسك بحقيبتها المهترئة كأنها كنز: “نريد أن نستعيد حياتنا… نحتاج فقط إلى الدفاتر والكتب والأقلام.”

إلى جانبها تبتسم ميار أبو سعدة: “نريد أن ندرس مثل باقي الأطفال، لا نريد أن تبقى الحرب هي معلمتنا الوحيدة.”

لكن العودة ليست سهلة؛ فالفصول لا تزال تجاور الخيام، وأواني الطبخ تملأ الممرات، والأرض التي كانت للطلاب صارت مأوى للنازحين. تقول المعلمة حنين كراز: “الظروف صعبة جدًا، لا مقاعد ولا قرطاسية، لكن التعليم في غزة ليس ترفًا، إنه طريق الحياة… رأس مال الفلسطيني هو التعليم.”

من جهتها، أكدت المتحدثة باسم الأونروا إيناس حمدان أن “أكثر من 62 ألف طالب استفادوا من التعليم المؤقت منذ أغسطس 2024، إلى جانب 300 ألف يتلقون دروسهم عن بُعد بمساعدة ثمانية آلاف معلم.” وأضافت: “التعليم حقّ لأطفال غزة، حتى وسط الأنقاض.”

لكن الأرقام في تقارير وزارة التربية والتعليم تُظهر حجم المأساة: 179 مدرسة حكومية دُمّرت بالكامل، و118 تضررت جزئيًا، وأكثر من 100 مدرسة تابعة للأونروا تحولت إلى ركام.

أما الجامعات، فـ 63 مبنى جامعيًا لم ينجُ من القصف. وخلف كل رقمٍ اسمٌ وذاكرة: 18,069 طالبًا استشهدوا، و26,391 أُصيبوا.

ورغم كل هذا الخراب، ما زال الجرس يُقرع، وما زالت الوزارة تنظّم امتحانات الثانوية العامة إلكترونيًا، وتفتتح مدارس افتراضية لئلّا ينقطع النبض الأخير للحياة.

في غزة، لا تعني العودة إلى المدارس نهاية الحرب، بل بداية أخرى للحياة. فالأطفال الذين يمسكون أقلامهم اليوم، يكتبون بها استمرار الوجود، ويحوّلون التعلم إلى فعل صمودٍ يوميّ ضد الفناء.

كل ابتسامة في ممرٍّ محطم هي إعلان هادئ بأن التعليم أقوى من الدمار، وأن صوت الحياة وإن كان خافتًا يعلو دائمًا فوق الركام.

Share This Story, Choose Your Platform!