108 أعوام على وعد بلفور… الجرح الذي لم يندمل
منذ أن وُقّعت الكلمات السبع والستون على ورقةٍ بريطانية قبل أكثر من قرن، لم تهدأ الأرض التي حملت جرحها. رسالةٌ قصيرة كتبها آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، كانت كفيلة بأن تغيّر وجه التاريخ في فلسطين، وتفتح قرنًا من النكبات لم تُغلق صفحته بعد.
منحَ من لا يملك أرضًا لا يملكها، لمن لا يستحقها، متجاهلًا الذاكرة والحقّ والوجود الإنساني الممتد في هذه البلاد منذ آلاف السنين. وهكذا تحوّل الحبر إلى نار، والرسالة إلى مشروع اقتلاعٍ وتهجيرٍ وإبادةٍ لم تتوقف.
منذ ذلك اليوم الأسود، لم تزل فلسطين تدفع ثمن وعدٍ صيغ في عاصمةٍ بعيدة، لكنّ صدى كلماته ظلّ يتردد في كل قرية مهدّمة ومخيمٍ يضيق بأهله.
على أنقاض أكثر من خمسمئة قرية وبلدة قام الكيان الغاصب عام 1948، واستُكمل الوعد الدموي في الحروب والمجازر والحصار، وفي وجوه الأطفال الذين وُلدوا بلا وطن ولا مأوى، بينما العالم يواصل صمته عن أطول جريمة استعمارية عرفها العصر الحديث.
اليوم، بعد مرور 108 أعوام، لم يتحول وعد بلفور إلى ذكرى، بل بقي واقعًا حيًّا يتجدد في كل عدوانٍ على غزة، وفي كل مستوطنةٍ تُغرس في الضفة، وفي كل بيتٍ يُهدم في القدس. فالذي بدأ بالحبر البريطاني، استُكمل بالنار والبارود، والنتيجة واحدة: احتلالٌ لا يزال يحكم الخنق على أرضٍ لم تُطفئ أنفاسها بعد.
تقول المؤسسات الحقوقية إن ما يجري في غزة منذ عامين من إبادة جماعية وحصارٍ خانق، هو الوجه الأخير لوعد بلفور، إذ ما زالت الحصانة السياسية تمنح القاتل شرعية الفعل، وما زال العالم ينظر إلى المأساة كقدرٍ جغرافي لا كجريمةٍ مستمرة.
لكن الفلسطينيين، الذين حُوّلوا إلى لاجئين فوق خريطةٍ ضاقت بهم، ما زالوا يكتبون روايتهم بدمهم وصمودهم. في المخيمات، في الشتات، وفي كل حجرٍ فوق الأرض المحتلة، تتجدد الإرادة بأن الحقّ لا يسقط بالتقادم، وأن الوعد الذي صاغه الاستعمار لم يكن قدرًا بل اختبارًا للثبات.
108 أعوام مرّت، وما زال الجرح مفتوحًا، لكنه لم يبقَ علامة ضعف، بل صار ندبة الذاكرة التي تذكّر بأن الصمود نفسه شكلٌ من أشكال المقاومة.
فالفلسطيني اليوم، رغم المجازر والحصار، ما زال يؤمن أن الحبر الذي أسقط أرضه لن يسقط حقه، وأن الأرض التي وُعد بها الغرباء ما زالت تحفظ أسماء أبنائها، وتنتظر عودتهم مهما طال الزمن.
هكذا، بين الذاكرة والمأساة، يكتب الفلسطينيون فصلهم الجديد من الوعد القديم: وعدٌ بالحرية هذه المرة، لا يوقّعه وزيرٌ بريطاني، بل شعبٌ صاغ بدمه وثيقة الوجود، وأقسم أن ما كُتب على الورق سيُمحى على أرض فلسطين.


