غزة… هدنة معلّقة على فوهة النار
منذ خُلق، لم يعرف هذا الكيان إلا لغة النار، يكتب بها حضوره على جدران المدن المهدّمة، ويوقّع على الهدن بمداد الدم. فكل هدنةٍ في قاموس الكيان الغاصب مجرّد استراحةٍ بين مجزرتين، تعيد التذكير بأن الحرب لم تغادر بعد. منذ اللحظة الأولى لإعلان وقف الحرب، لم تتوقف خروقات الكيان الغاصب، لكنّ ما يجري في الأيام الأخيرة تجاوز حدود الحوادث، ليكشف عن نهجٍ مقصودٍ لإبقاء القطاع في حالة اشتعالٍ دائم، وكأنّ الموت جزءٌ من إدارة الحياة في غزة.
فمنذ مساء الأمس وحتى الصباح، شنّ الكيان الغاصب عشرات الغارات على مختلف مناطق القطاع، أسفرت عن نحو مئة شهيدٍ وعشرات الجرحى، في سلسلةٍ جديدة من التصعيد الذي يختبر فيه الكيان الغاصب حدود الدم المسفوح. ورغم كل ما قيل عن التهدئة، تواصل السماء انسكابها نارًا، وكأنها ترفض أن تمنح الغزيين يومًا واحدًا بلا جنازات.
العدوان الأخير لا يمكن قراءته كحادثٍ عابر؛ إنه جزءٌ من منهجٍ متجذّر يقوم على إدامة الفوضى، وتحويل غزة إلى مساحة رمادية لا تُعرف فيها الحدود بين الإبادة والحياة. فكل قصفٍ جديد تثبيتٌ لمعادلةٍ تسمح للقاتل أن يعود متى شاء، وبالذريعة التي يختلقها.
منذ توقيع اتفاق وقف الحرب في العاشر من أكتوبر، وثّق المكتب الإعلامي الحكومي أكثر من 125 خرقًا، أسفرت عن 94 شهيدًا و344 جريحًا. أرقامٌ تفضح زيف التهدئة، وتؤكد أن ما يُسمّى وقف الحرب في غزة لا يعني سوى تأجيل الغارات القادمة.
إنها سياسة متكررة يُراد منها تطبيع القصف وتحويل الألم إلى حدثٍ يومي. تحت هذا المنطق، يصبح الهواء في غزة مثقلًا بالخوف، ويغدو الليل موعدًا دائمًا للانفجارات. يمضي الناس في حياتهم كمن يسير فوق جمرٍ تحت الرماد، لا يُعرف متى يشتعل من جديد.
ويرى الباحث أحمد العطاونة أن الكيان الغاصب يسعى من خلال هذه الضربات إلى “جمع المبررات والذرائع لتبرير استمرار العدوان”، مستخدمًا الملفات الإنسانية كغطاءٍ سياسي لتشويه الواقع وتبديل الأولويات. فهي حربٌ لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالدعاية، وبمحاولاتٍ محمومة لتبرير ما لا يُبرَّر.
في هذا السياق، تتحوّل غزة إلى ساحة اختبارٍ دائمة، يُقاس فيها نبض العالم، ويُراقَب فيها مدى تحمّل الضمير الإنساني لصور الشهداء والدمار. عشرات الغارات تمرّ بصمتٍ دوليٍّ مريب، وكأنّ الحياة في غزة فقدت قيمتها الأخلاقية على خارطة العدالة.
ما يجري اليوم ليس تصعيدًا طارئًا، بل منهجٌ مكتمل الأركان لإدامة الجرح الفلسطيني مفتوحًا، وإبقاء القطاع تحت ضغطٍ متواصلٍ يمنع أي تعافٍ أو استقرار. إنه شكلٌ آخر من الإبادة البطيئة التي لا تُنفّذ بالقنابل فقط، بل بالحياة الممنوعة عن أهلها، وبالتهدئة التي تُقاس بعدد الشهداء لا بعدد الأيام الهادئة.
ورغم كل شيء، يبقى الغزيون وحدهم من يحاولون إعادة تعريف “الهدنة” بطريقتهم الخاصة: بالتمسك بالحياة، بزراعة ما تبقّى من الأرض، وبإصرارهم على البقاء رغم كل ما يُراد لهم من فناء. فهنا، لا تُقاس الهدنة بصوت المدافع، بل بقدرة الناس على الحلم وسط الركام.


