غزة بعد الحرب... ركام لا يُحصى وجوع يطرق الأبوابغزة بعد الحرب... ركام لا يُحصى وجوع يطرق الأبواب
ستة آلاف مفقود في غزة وجثامين الأسرى تكشف جرائم تعذيب وإعدام ميدانيستة آلاف مفقود في غزة وجثامين الأسرى تكشف جرائم تعذيب وإعدام ميداني

أعراسٌ على أنقاض الحرب… غزة تختار الحياة

في غزة، لا تنتهي الحرب بانتهاء القصف، ولا تتوقف الحياة عند حدود الألم، فمن بين الركام تولد البدايات، ومن بين الجراح تُكتب فصول جديدة من الإصرار، المدينة التي واجهت الموت ألف مرة، ما زالت تعرف كيف تحتفل بالحياة بطريقتها الخاصة، الهادئة، المجبولة بالصبر والكرامة. في شوارعها، تتقدّم العرائس بخطواتٍ واثقة بين البيوت المهدّمة، لا لتتحدّى الحزن، بل لتقول إن الفرح ما زال حقًّا فلسطينيًا أصيلاً، وإن الزواج في غزة ليس مناسبة عابرة، بل إعلان بقاءٍ جديد في وجه الإبادة والغياب.

 

زفاف في مدينة تلبس السواد

بين شوارع مليئة بركام البيوت، تسير عروس ترتدي فستانًا أبيضَ كأنه إعلان حياةٍ في وجه الموت. لا موكب سيارات، ولا زفة صاخبة، ولا أغانٍ تملأ السماء كما كان في السابق. المشهد بسيط، صامت، لكنه عميق المعنى. فكل ابتسامة هنا، تُعدّ تحديًا للحزن، وكل خطوة نحو القاعة الصغيرة، هي خطوة في وجه الخراب.

محمد عوض، شاب من غزة تزوّج بعد الحرب بأيام قليلة، يروي بحزنٍ متماسك: “ما قدرت أفرّح مثل الناس، جيراني فقدوا أولادهم، والمنطقة طالعة من وجع كبير. عملت حفلة صغيرة لأهلي بس، بدون موسيقى ولا ضجيج… المهم نبدأ حياة جديدة، مش ننسى اللي راحوا.”

كلماته تلخص حال الغزيين جميعًا فرح مشوب بالدمع، وسعادة تخشى أن ترتفع كثيرًا لئلا تصطدم بجدار الوجع

 

فرح متقشّف في زمن الفقد

بعد عامين من الإبادة، لم يعد الزواج في غزة احتفالًا صاخبًا كما كان، بل طقسًا رمزيًا يؤكد أن الحياة ما زالت ممكنة. الأعراس التي كانت تمتد لليالٍ طويلة باتت اليوم لقاءات عائلية مقتضبة، تُقدَّم فيها القهوة على استحياء، وتُستبدل الأغاني بالأناشيد الهادئة. فكيف تُرفع أصوات الأفراح بينما يجاور البيت بيتًا مهدّمًا فقد أبناءه؟

الخبير الاجتماعي عبد الله محمود يرى أن ما يحدث اليوم هو تحوّل طبيعي في مجتمع يعيش حالة حدادٍ جماعي، قائلاً: “تقاليد الفرح تغيّرت لأنها لم تعد تتماشى مع المزاج العام، حتى مفهوم السعادة صار أكثر تواضعًا. الزواج اليوم يُقام كواجب اجتماعي لا كطقس احتفالي.”

 

من رماد الحرب تولد الحياة

لكن في مقابل هذا الحزن العام، تولد قصص أملٍ صغيرة تشبه أعراسًا خجولة في مدينة أنهكتها الحرب. تقول العروس إسراء أبو دية بابتسامة متعبة: “ما بدنا نعيش على الأطلال، بدنا نكمّل. الفرح صار موقف وطني، مش مجرد مناسبة شخصية.”

في كلماتها تختصر إسراء فلسفة الحياة في غزة، فالفرح ليس نسيانًا للموت، بل ردٌّ عليه. أن تُقيم زفافك وسط الركام يعني أنك اخترت الحياة رغم كل ما يريد لك الموت أن تستسلم له.

 

غزة… مدينة تعيد اختراع الأمل

في المساء، حين تمرّ في أحياء غزة القديمة، قد تسمع زغاريد خافتة تتسلل من بيتٍ مهدّم. ليست صاخبة كما في الماضي، لكنها أكثر صدقًا ودفئًا. إنها زغاريد تقول للعالم إن هذه المدينة، التي واجهت الموت مراتٍ لا تُحصى، لا تزال قادرة على الحب.

غزة اليوم تكتب فصلًا جديدًا من حكايتها الطويلة حكاية تُعلّم العالم أن النصر لا يُقاس بعدد المعارك، بل بقدرة القلب على النهوض من بين الرماد. فهنا، كل عرسٍ صغير هو إعلان بقاء، وكل ضحكةٍ خجولة هي مقاومة بصوتٍ ناعم.

Share This Story, Choose Your Platform!