مؤتمر شرم الشيخ لـ “السلام”… أم عرضٌ مسرحي؟
بقلم: الدكتور صابر أبو مريم
الأمين العام لمؤسسة فلسطين – باكستان
في الثالث عشر من أكتوبر عام 2025، نُصِب مسرحٌ ضخم في مدينة شرم الشيخ تحت لافتة ما سُمّي بـ “مؤتمر السلام”. ترأسه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بمشاركة رؤساء دول غربية وأوروبية وعربية وعدد من الدول الإسلامية، حيث مثّلت عشرون دولة في هذا الحدث، إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة.
المفارقة الموجعة أن المهمة التي كان ينبغي أن يقودها الأمين العام للأمم المتحدة، تولّاها الرئيس الأميركي بنفسه، ليُعاد تكرار المشهد الذي أرادت واشنطن من خلاله أن تقول للعالم إنها لا تزال القوة التي تتحكم بالنظام الدولي وتفرض قواعده. لكن هذه هي الإدارة ذاتها التي استخدمت حق النقض (الفيتو) ست مرات لإسقاط قرارات مجلس الأمن المطالِبة بوقف إطلاق النار في غزة. فكيف يمكن لقوةٍ كهذه أن تتحدث اليوم عن “السلام”؟ سؤالٌ يهزّ ضمير كل إنسانٍ عاقلٍ على وجه الأرض.
وقبل مشاركته في المؤتمر، زار ترامب فلسطين المحتلة، وتحديداً مدينة يافا “تل أبيب”، وألقى كلمة أمام الكنيست، تفاخر فيها صراحةً بدوره في حرب الإبادة على غزة قائلاً: “نتنياهو لا يزال يطلب مني مزيداً من الأسلحة، وقد قدمت له ما قيمته 21 مليار دولار من العتاد، استخدمها بفعالية.”
بهذه البساطة، اعترف ترامب بأن إدارته سلّحت الكيان الغاصب لارتكاب جريمة إبادة راح ضحيتها أكثر من 70 ألف فلسطيني خلال عامين فقط — دون أن يطرف له جفن أو يشعر بالخجل. ومع ذلك، وصل إلى شرم الشيخ متوشحاً بلغة “السلام”!
ولم ينسَ العالم بعد أن ترامب نفسه أمرَ قبل أشهر قليلة بشنّ غارةٍ أميركية على دولةٍ ذات سيادة هي إيران، في انتهاكٍ صارخ لكل القوانين الدولية. وهو ذاته الذي هدد روسيا بالعقوبات، وتباهى بنيّته السيطرة على قاعدة باغرام في أفغانستان، وسمح للكيان الغاصب بمواصلة قصفها في اليمن ولبنان وسوريا، بل إن واشنطن تحت قيادته شاركت مباشرة في قصف الأراضي اليمنية. فكيف لرجلٍ أشعل كل تلك الحروب أن يزعم السعي إلى “السلام”؟
أما “مؤتمر السلام من أجل غزة”، فلم يكن إلا محاولة جديدة من ترامب لصناعة وهمٍ سياسيّ بأن أميركا والكيان الغاصب ما زالا يملكان زمام المبادرة. لكن الحقيقة أن صفقة السلاح البالغة 21 مليار دولار لم تحقق أي مكاسب عسكرية في غزة، بل فاقمت من خسائر الاحتلال وأحرجت داعميه أمام الرأي العام العالمي. لقد انقلب السحر على الساحر، وتعاظفت موجة التعاطف مع فلسطين في كل أنحاء العالم، وانكشفت الوجوه الحقيقية لأميركا والكيان الغاصب.
هذا الواقع دفع بترامب والمجرم بنيامين نتنياهو إلى مستنقعٍ دبلوماسيٍّ خانق، لم يجدا منه مخرجاً سوى التفاوض مع من حركات المقاومة الفلسطينية ليجدوا أنفسهم في النهاية مضطرين للقبول بشروطها في إعادة صياغة اتفاق الهدنة.
من هنا، لم يكن مؤتمر شرم الشيخ سوى “عرضٍ مسرحيٍّ لترامب”، هدفه التغطية على الهزيمة السياسية والعسكرية. أما القادة المدعوون، فلم يكونوا سوى جمهورٍ للتصفيق، وبعضهم — مثل رئيس وزراء باكستان شهباز شريف — بلغ في المجاملة حدّ التذلل. كان المشهد بأكمله محاولة يائسة لتلميع صورة ترامب وتقديمه كـ “رجل سلام”، بينما تاريخه لا يعرف سوى الحروب والدمار. فكيف يُمنح من أطلق الحروب على إيران واليمن ودعم عدوان الكيان الغاصب على المنطقة لقب “رئيس السلام”؟ اللقب الوحيد الذي يستحقه هو “رئيس الحرب”.
أما عن مجريات المؤتمر نفسه، فقد كانت مجرد مسرحية سياسية مكتوبة سلفاً. جلس الحاضرون يستمعون إلى كلماتٍ معدّة مسبقاً، ووقّعوا على وثائق جاهزة دون أي نقاش أو اعتراض.
وكانت الفضيحة الأكبر أن “مؤتمر السلام” لم يأتِ على ذكر أكثر من 65 ألف مدني فلسطيني قُتلوا في غزة، غالبيتهم من النساء والأطفال. القوى نفسها التي أقامت “محاكم نورمبرغ” لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، منحت هذه المرة صكّ غفرانٍ لمجرمي الإبادة في غزة. كما جرى تجاهل كامل للحديث عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وكأنّ “السلام” ممكنٌ دون عدالة.
لقد كان ما جرى في شرم الشيخ مسرحاً دبلوماسياً أكثر منه مؤتمراً دولياً، عرضاً أخرق قاده ترامب بانتهاكٍ صريح لكل الأعراف والقوانين الدولية، فيما تحوّل الحاضرون إلى متفرجين صامتين. أما لغة الإنسانية، فقد غابت تماماً: لا أحد تحدث عن أمهات غزة، ولا عن أطفال المخيمات، ولا عن المدن التي صارت رماداً. وتحت غطاء “السلام”، فُرض الصمت على الجميع.
وفي الختام، انتهى مؤتمر شرم الشيخ، لكن السؤال الأخلاقي ظلّ معلقاً: أيّ سلامٍ هذا الذي يُبنى على أنقاض العدالة؟
يمكن اختصار ما حدث في شرم الشيخ بجملة واحدة: سلامٌ بلا عدالة… ليس سلاماً، ومؤتمرٌ بلا فلسطين… ليس سوى عرضٍ مسرحي.
وهكذا، ومع إسدال الستار، اختتم ترامب عرضه المسرحي بكلماته الأخيرة: “انتهى العرض… يمكن للجميع أن يعودوا إلى منازلهم.”