غزة… أولئك الذين بعثوا من القبور وكتبوا حكاية الحرية من جديد
كأنهم خرجوا من ليلٍ طويل لا ينتهي، كأنهم بُعثوا من القبور بعد موتٍ بطيء. وجوهٌ شاحبة كُتبت عليها حكايات الألم، أجسادٌ نحيلة، عظامٌ بارزة، شعرٌ طال كما يطول الغياب، وندوبٌ تمتد على الأذرع والوجوه والقلوب. لم يكن خروج الأسرى الفلسطينيين من سجون الكيان الغاصب مجرد حدث عابر، بل كان ولادة جديدة لأناسٍ حُفر في وجوههم معنى الصبر، وفي أجسادهم شهادة على وحشيةٍ لا توصف.
حين فتحت الأبواب الحديدية، خرجوا بملامح الذين عبروا الجحيم. بعضهم يمشي على قدمٍ واحدة، وآخر يحمل بقايا جسده المثخن بالكسور، وثالث لا يقوى على النظر إلى الضوء بعدما أُلف ظلام الزنازين. وفي العيون الفارغة ارتعشت رهبة اللقاء الأول بالشمس، وارتسمت ملامح الذين عرفوا طعم الموت ولم يموتوا.
خلف القضبان، لم يكن الزمن يمرّ، بل كان ينهشهم ببطء. في الزنازين الضيقة، كانت الوجبات تُقاس بالحرمان، والنوم يُؤخذ بالتعب، بعضهم خرج مبتور الأطراف بعد أن تُرك جريحًا دون علاج، وآخرون خرجوا بعاهاتٍ دائمة نتيجة التعذيب الوحشي. كل تفصيل في أجسادهم شهادة، وكل ندبة حكاية عن سجانٍ فقد إنسانيته.
الأسير ناجي الجعفراوي خرج من السجن باحثًا بين الوجوه عن شقيقه صالح، الصحفي الشهيد الذي رحل قبل ساعاتٍ فقط من تحرره. كان يمسح الوجوه بدموعه، كأنه يحاول أن يتأكد أن الحياة ما زالت ممكنة بعد كل هذا الفقد. وبينما كان يردد بصوتٍ واهن: “خرجنا من القبور… خرجنا من الموت”، كان المشهد كله يختصر حقيقةً لا لبس فيها: أن السجون الصهيونية ليست أماكن احتجاز، بل مختبرات للموت البطيء.
على الجهة الأخرى، خرج الصحفي شادي أبو سيدو منهك الجسد مكسور العظم. تحدث بعينٍ دامية وصوتٍ مرتجف عن سنتين من الجوع والعذاب، قال: “كسروا صدري ويدي، استخدموا معنا سياسة تكسير العظام.” وأردف في مرارة: “أنا جائع منذ عامين… دخلت جائعًا وخرجت جائعًا.” كشف أن السجانين تعمدوا ضرب عينيه لأنه مصور صحفي، وأن أحدهم قال له: “سأقتلع عينك كما اقتلعت الكاميرا التي كنت تصور بها غزة.” كانت كلماته أقرب إلى أنينٍ خرج من عمق الذاكرة، لا وصفًا لما جرى.
داخل الزنازين، الموت يتنفس ببطء. أكثر من 77 أسيرًا استُشهدوا منذ أكتوبر 2023 نتيجة التعذيب والإهمال الطبي. والناجون من بين الجدران ليسوا سوى أشباحٍ لعشراتٍ آخرين لم يعودوا. بعضهم يعاني من أمراض مزمنة، وآخرون فقدوا القدرة على الحركة أو الرؤية. حتى الأطباء الفلسطينيون لم يسلموا من الأسر، فظلّ كثير منهم خلف القيود، فيما المرضى يموتون في الزنازين واحدًا تلو الآخر.
مدير عام مجمع الشفاء الطبي، الدكتور محمد أبو سلمية، أكد أن معظم الأسرى الذين وصلوا إلى غزة خرجوا في حالةٍ صحية ونفسية كارثية، بعضهم مبتورو الأطراف، وآخرون مصابون إصاباتٍ بالغة لم تُعالج إطلاقًا. وأوضح أن بين المحررين حالات حرجة تحتاج إلى تدخل طبي عاجل بعد أن تركهم الكيان الغاصب دون دواء أو رعاية.
لكن رغم هذا السواد، لا يمكن للحكاية أن تنتهي عند الألم. فكل من خرج من تلك الزنازين حمل في عينيه ضوءًا صغيرًا لا يُطفأ. ضوء الكرامة. فالسجون لم تنتصر، والموت لم يربح، والإبادة لم تُنهِ الحكاية. خرج الأسرى وهم يحملون رمزية انتصارٍ أعمق من حدودهم الفردية — انتصار الروح الفلسطينية على آلة القمع، وانتصار الإيمان على التجريد من الإنسانية.
من بين العتمة، كُتبت سطور جديدة في ذاكرة غزة. سطور ليست بالحبر، بل بالدم والوجع والصبر. الذين خرجوا من القبور اليوم، لم يعودوا كما كانوا، لكنهم عادوا ليذكّروا العالم بأن النصر لا يقاس بالوقت ولا بالسلاح، بل بالقدرة على البقاء إنسانًا رغم كل ما يُراد له أن يُمحى.