في صباح 21 آب/ أغسطس 1969، استيقظ العالم على واحدة من أبشع الجرائم التي استهدفت المسجد الأقصى المبارك، حين أقدم المتطرف الأسترالي دينيس مايكل روهان على إشعال النيران في المصلى القبلي. استمرت ألسنة اللهب قرابة ثلاث ساعات، التهمت خلالها أجزاء واسعة من السقف ووصلت إلى منبر صلاح الدين الأيوبي، لم يتوقف الخطر عند ذلك، إذ كادت النيران أن تصل إلى القبة التاريخية لتأتي على ما تبقى من معالم أثرية فريدة.

رغم هول الكارثة، لم يكن الحريق مجرد فعل منفرد قام به متطرف معزول، إذ شكّل نقطة تحوّل كشفت عن وجود مشروع منظم يستهدف الأقصى ويفتح الباب لتهويده.

ورغم أن العالم آنذاك صُدم بالمشهد، إلا أن تداعياته ظلت عالقة في وجدان الفلسطينيين والمسلمين، باعتبارها البداية الفعلية لمخطط طويل الأمد.

على مدى العقود اللاحقة، لم تتوقف محاولات الكيان الغاصب لفرض واقع جديد داخل المسجد الأقصى. ومع مرور الزمن، تدرجت سياساته من الاقتحامات المتقطعة إلى تكريسها كجزء من مشهد يومي، تحت حماية عسكرية مشددة.

إلى جانب ذلك، تحاول المجموعات الدينية شرعنة أداء الطقوس التلمودية داخل ساحات المسجد، في خطوة اعتبرها المقدسيون والعلماء محاولة واضحة لفرض التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، بحيث يخصص جزء من أوقاته وأماكنه للمستوطنين على حساب المسلمين.

هذا الواقع يعكس مساراً متصاعداً منذ الحريق: من إحراق المنبر والمصلى، إلى محاولة حرق الذاكرة والهوية، وصولاً إلى فرض وقائع جديدة على الأرض. كل ذلك في ظل دعم رسمي من الكيان الغاصب، وصمت دولي متكرر لا يرقى لمستوى الجريمة.

اليوم، وبعد مرور 56 عاماً على الحريق، يقف الأقصى أمام أخطر مراحله. الاقتحامات اليومية باتت مشهداً اعتيادياً، فيما تتعالى أصوات حاخامات وسياسيين يطالبون بفرض “السيادة اليهودية” على المسجد.

ويصف خبراء ومراقبون ما يحدث بأنه تقسيم عملي قائم بالفعل، يتجسد في تحديد أوقات ومناطق لاقتحام المستوطنين، ومنع المسلمين في أحيان كثيرة من دخول المسجد أو أداء الصلاة بحرية.

هذه السياسات تعكس انتقال الكيان الغاصب من التهديد بالنار إلى التهديد بالإجراءات الميدانية. وإذا كان حريق 1969 قد دمّر منبر صلاح الدين، فإن التقسيم الحالي يهدد جوهر المسجد الأقصى باعتباره رمزاً للهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية.

بين الأمس واليوم

ما بين ألسنة النار التي التهمت المصلى القبلي قبل أكثر من نصف قرن، وألسنة السياسات التي تلتهم المسجد اليوم، تبقى القضية واحدة: محاولة اقتلاع المسجد الأقصى من محيطه العربي والإسلامي. لكن كما قاوم الأقصى الحريق يومها، فإنه يواصل اليوم مقاومة مخططات التهويد، مدعوماً بصمود المقدسيين ووعي الشعوب.

إن حريق الأقصى كان بداية لمسار طويل يتجدد اليوم بأدوات مختلفة. وبينما يصرّ الكيان الغاصب على فرض أمر واقع جديد، يظلّ الأقصى عنواناً للمقاومة، ورمزاً لمعركة الهوية التي لم تنتهِ بعد.