في زمن يمضي فيه العالم بلا اكتراث أمام أنين المحاصرين، اندفعت قوافل كسر الحصار إلى غزة كأشرعة أمل تتحدى الرياح العاتية، لكنها وُئدت على مشارف البحر والبر والحدود.

كانت تلك القوافل أكثر من مجرد شحنات إغاثة، كانت صيحة حياة، وخطوة عملية تهزّ جدران الصمت المحيط بالقطاع الجريح.

مادلين… سفينة الأمل التي اعترضها القيد

في مقدمة هذه القوافل كانت سفينة “مادلين”، التي حملت اسم الصيادة الفلسطينية الشجاعة مادلين كلاب، لتجوب البحر برفقة نشطاء من دول عدة، يحملون معهم بعضاً من الطعام والدواء والكثير من الضمير.

أبحرت السفينة من صقلية متحدية الحصار البحري المفروض على غزة، ورغم التحليق المزعج للطائرات المسيّرة وتشويش الكيان الغاصب المكثف، استمر النشطاء في التقدم، مرددين: “أنتم لستم وحدكم”.

لكن الكيان الغاصب لم يتوانَ عن اعتراض السفينة في المياه الدولية، واحتجز النشطاء الذين لم يكن سلاحهم سوى إنسانيتهم.

تحوّلت “مادلين” إلى رمز عالمي للمقاومة المدنية، وأشعلت موجة إدانات من أطراف دولية واسعة، ودفعت منظمات حقوقية إلى التأكيد على أن الحصار المفروض على غزة ليس غير قانوني فحسب، بل هو جريمة ضد الإنسانية.

في واحدة من أقوى رسائل التضامن الإنساني، صرّحت الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، التي شاركت في رحلة “مادلين”، قائلة: “أنا مستعدة لدفع حياتي ثمنًا مقابل إيصال 100 كيلوغرام من الطحين إلى غزة”.

كلماتها لم تكن مجرد شعار عابر، بل إعلان تحدٍ واصرار على كسر جدار الحصار، ولو على حساب حياتها.

وفي موقف داعم، دعا زعيم حزب حركة “فرنسا الأبية” الاتحادَ الأوروبي والأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى “إدانة الاعتقال غير القانوني للنشطاء على متن السفينة مادلين”، مؤكدًا أن ما جرى هو انتهاك فاضح لكل القوانين الإنسانية.

ومادلين الصيّادة الفلسطينية، التي كانت من النساء القلائل، إن لم تكن الوحيدة التي تمتهن صيد الأسماك في قطاع غزة قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

والتي تحولت قصة كفاحها إلى رمز للمقاومة في وجه حصار الكيان الغاصب والظروف الاقتصادية القاسية في القطاع.

قافلة الصمود… طريق البر المحاصر

على البر، انطلقت قافلة الصمود من تونس والجزائر، قوافل بشرية عبرت حدود المغرب العربي، محملة بالمساعدات الرمزية والأمل الثقيل.

عبرت تونس والغرب الليبي برفقة حشود من النشطاء والأطباء والمحامين ورجال الدين، في تحرك شعبي عابر للحدود.

لكنها توقفت قسرًا عند سرت الليبية، بعد أن مُنعت من التقدم نحو مصر بذريعة غياب التنسيق. احتجزت القافلة في الصحراء، قطعت عنها الاتصالات، وتعرض بعض المشاركين للاعتقال، وانتهى بها المطاف إلى العودة، لكن صوتها ظل يتردد: غزة ليست وحدها.

قافلة الكرامة… لبنان على الطريق

من لبنان، انطلقت قافلة الكرامة تضم لبنانيين وفلسطينيين، ووصلت إلى الحدود السورية على أمل العبور. لكن القافلة أُوقفت، إذ رفضت السلطات السورية السماح لها بالمرور دون تنسيق رسمي.

قضى المتطوعون ليلتهم في العراء، وانتظروا سماحًا لم يأتِ، فعادوا أدراجهم، لكنهم عادوا وقد أوصلوا الرسالة: غزة ليست وحدها.

قوافل توقظ الضمير

هذه القوافل الثلاثة: مادلين، الصمود، الكرامة… رغم حصارها وعرقلتها، أيقظت موجات تضامن في الشوارع العربية والعالمية.

خرجت المسيرات في الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، بينما أيدتها منظمات كبرى كاتحاد الشغل ونقابات الأطباء والمحامين في تونس، وأحزاب سياسية وشخصيات اعتبارية في الجزائر ولبنان.

دول أوروبية استدعت سفراء الكيان الغاصب احتجاجًا على اعتراض “مادلين”، ومنظمات حقوقية اعتبرت الهجوم على السفينة جريمة قرصنة.

هذه القوافل، وإن أعيدت من الحدود، لم تعد مهزومة. فقد نجحت في تحريك المياه الراكدة وكسر الصمت، وفضحت بشاعة الحصار الذي يلتف حول أعناق أطفال غزة.

غزة… جوع تحت الحصار

الواقع في غزة مأساوي يفوق كل وصف. تقارير أممية وإنسانية أكدت أن أكثر من 90% من السكان يعانون من نقص حاد في الغذاء والمياه والدواء.

نصف مليون إنسان باتوا على شفا المجاعة. المستشفيات في غزة تُعلن عجزها عن تقديم الرعاية، مخازن الأدوية فارغة، محطات تحلية المياه مدمرة، والبنية التحتية في حالة انهيار تام.

الأطفال يمرضون، والشيوخ يموتون عطشًا، والمياه النظيفة شبه معدومة. أطباء وثقوا وفيات نتيجة شرب مياه البحر وتفشي الأمراض المعدية وسط مخيمات النزوح.

الأمم المتحدة تصف المشهد بأنه “تفكيك ممنهج لمقومات الحياة”، ومنظمة الصحة العالمية تحذر من كارثة صحية غير قابلة للاحتواء.

منظمة العفو الدولية اعتبرت الحصار جريمة جماعية تستهدف أكثر من مليوني إنسان، مطالبة المجتمع الدولي بإنهائه فورًا ومحاسبة المسؤولين عنه.

لماذا القوافل مهمة؟

لأنها تذكّر العالم بأن غزة لا تزال على قيد الألم. القوافل، حتى وإن منعت، تُشعل وميض الذاكرة العالمية. هي أداة ضغط شعبي وأخلاقي، تُحرج الكيان الغاصب وتكسر طوق الصمت. هذه القوافل تعطي القضية روحًا، تمنحها صورة، تضعها في الواجهة.

القوافل هي أجراس إنذار، ومن الضروري أن تتكرر، أن تزداد، أن تتحول إلى موجة لا تُوقف. يجب أن تستمر الجهود الشعبية والرسمية، ويجب على الحكومات العربية والأجنبية تسهيل مرور هذه القوافل لا تعطيلها. فالطريق إلى غزة يجب أن يبقى مفتوحًا للأمل.

القوافل عادت، لكنها عادت لتروي، لتفضح، لتستنهض الضمائر. عادت وقد أوصلت الرسالة: غزة ليست وحدها، غزة في القلب. وعلى الشعوب الحرة أن تبقى في الميدان، وعلى العالم أن يتحرك، ليس بالكلام ولكن بالفعل، حتى يُكسر الحصار، وحتى يُفتح الطريق أمام الحياة.