في قلب خان يونس، حيث الجوع يسير أمام المارة كظلٍّ ثقيل، وحيث الناس يتجمهرون حول مراكز توزيع الطعام كأنها سفن نجاة في بحرٍ متلاطم، وقعت المأساة.

في لحظة انتظرها الجميع لتكون بريق أمل، تحوّلت الساحة إلى مشهدٍ من الدم والدخان، حين فتحت الدبابات نيرانها على أجساد لم تحمل سوى الأمل في كسرة خبز.

كانوا هناك، عزلًا، يحملون أكياسهم الفارغة وقلوبهم المثقلة بالجوع، تقدموا بخطوات مرتجفة نحو قوافل المساعدات والإغاثة، ثم انهالت القذائف كالمطر، فسقط الأطفال والنساء والشيوخ بين صرخات الاستغاثة وركام الخبز الممزّق.

ووسط هذا المشهد القاسي، لا تزال آلة القتل تمضي كأنها لا ترى، ولا تسمع، ولا تعترف.

 

حصار يطوّق الأنفاس

منذ شهور، يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق، أحكم قبضته على الغذاء والماء والدواء، حتى صار الجوع وجهاً يومياً يعبر الطرقات. عشرات الآلاف من الأطفال ينامون على وسائد من الجوع، وأمهاتهم يحملن أوجاعًا لا تطاق، يعجزن عن إطعام أجساد صغيرة تتضاءل يوماً بعد يوم.

المجاعة لم تعد تلوح في الأفق، بل اقتحمت البيوت، دخلت المدارس والمستشفيات، استقرت في أحشاء الصغار، وألقت بظلالها على كل تفصيل في الحياة. مراكز الإغاثة، التي يُفترض أن تكون ملاذاً، أصبحت فخاخاً مفتوحة في العراء، تُستهدف من يقفون في طوابيرها.

وفي تفاصيل المجزرة التي هزّت الضمائر اليوم، سقط أكثر من 60 شهيدًا و200 مصاب سقطوا جراء قصف مباشر على المدنيين الذين كانوا ينتظرون الحصول على مساعدات غذائية شرقي خان يونس جنوبي قطاع غزة.

هذا المشهد الدموي أعاد إلى الأذهان تحذيرات المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA)، فيليب لازاريني، الذي قال : “توزيع المساعدات أصبح فخاً للموت… يجب رفع الحصار فوراً، والسماح للأمم المتحدة بالوصول الآمن وغير المقيد لتفادي المجاعة، خصوصاً بين الأطفال.”

تصريح يُلخّص حجم الفاجعة التي يعيشها القطاع يومياً، ويؤكد أن الحصار هنا لا يقتل بالجوع فقط، بل يقتل بالرصاص والقذائف حتى في طوابير النجاة.

 

فوضى الإغاثة… وشهادات الموت

الفوضى تلتهم كل شيء. آلاف الأطنان من الغذاء ما زالت عالقة عند المعابر، خطوط الإمداد متهالكة، المشافي تغلق أبوابها تباعًا، خزانات المياه تجف، والكهرباء لم تعد إلا ذكرى.

المدنيون يتعرضون للقصف أثناء انتظار المعونة، يتسابقون نحو مراكز التوزيع التي تحمل بصيص أمل، فيجدون أنفسهم فجأة بين قصف لا يرحم، خان يونس لم تكن الوحيدة، بل سبقها مشهد مشابه في رفح، حيث تكررت المجزرة… وكأن الطعام صار استهدافًا مشروعًا.

المساعدات، التي كان يُفترض أن تكون خط أمان، تحوّلت إلى شرك مميت. الحصول على الغذاء بات مغامرة دموية، وقد ينتهي في لحظة تحت وابل من الرصاص.

هذا ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش الذي أكّد أنّه من غير المقبول أن يخاطر الفلسطينيون بحياتهم من أجل الطعام… ودعا إلى تحقيق فوري ومستقل، ومحاسبة المسؤولين.

كلماته تعكس حجم المأساة التي تجعل كل محاولة للبقاء على قيد الحياة مخاطرة قد تكون قاتلة.

الحصار الخانق والقيود الصارمة على دخول المساعدات لم تقتل الناس بالجوع فقط، بل قتلتهم وهم يحاولون النجاة. وكأن الحصار لا يريدهم أن يعيشوا، ولا يريدهم أن يموتوا بسلام.

وفي شهادة مؤلمة أخرى، قال المتحدث باسم حقوق الإنسان للأمم المتحدة في جنيف، جيريمي لورنس إنّ الهجمات المتكررة في محيط المساعدات تمثّل اعتداءات مروعة على المدنيين البائسين الباحثين عن القليل من الطعام… وحشية لا يمكن تصديقها.

 

أصوات من العالم… وغضب بلا صدى

في وجه هذه الكارثة، تعالت الأصوات التي تطالب بفك الحصار، ودعت إلى تأمين ممرات آمنة للمساعدات، وأدانت استخدام الجوع كسلاح. لكن هذه الأصوات، رغم صدقها، تبدو كأنها تصرخ في فراغ عميق، يتسع مع كل قذيفة تسقط، ومع كل طفل يفارق الحياة جوعًا.

مأساة غزة اليوم ليست مجرد أرقام، بل وجوه وأحلام قُطعت قبل أن تكتمل. إن مسؤولية الصحافة، والضمير العالمي، أن ينقل الحقيقة كما هي: أن ينقل الجوع، والخوف، والموت… ويطالب لا بالتعاطف فقط، بل بفعل حقيقي، قبل أن تبتلع المجاعة ما تبقى من الحياة.