في وقت تصم فيه كثير من العواصم آذانها عن صرخات غزة، أبحرت سفينة “مادلين” مطلع يونيو/حزيران 2025 من ميناء كاتانيا الإيطالي باتجاه القطاع، وتحمل على متنها مساعدات إنسانية بسطية تشمل القليل من الغذاء والدواء، لكنها حملت معها ما هو أثقل من ذلك بكثير.. إرادة عالمية لكسر جدار الصمت حول الحصار المفروض على أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة.
قادت هذه السفينة رحلة تضامنية شجاعة، اشترك فيها اثنا عشر ناشطًا دوليًا من جنسيات متعددة، من بينهم الناشطة السويدية غريتا تونبرغ التي قالت بصراحة مدوية: “أنا مستعدة لدفع حياتي ثمناً مقابل إيصال 100 كيلوغرام من الطحين إلى غزة.”
لم تكن هذه العبارة مجرد موقف عاطفي عابر، بل كانت تلخيصًا عميقًا لحجم المخاطرة التي أصبحت تساوي اليوم مجرد محاولة لإيصال كيس دقيق إلى منطقة يموت أهلها جوعًا.
القرصنة في وضح القانون
في الساعات الأولى من صباح 9 يونيو 2025، وعلى بعد نحو 100 ميل بحري من سواحل غزة، قامت قوات الكيان الغاصب باعتراض السفينة “مادلين” في المياه الدولية.
العملية لم تكن فقط خرقاً صارخًا للقانون البحري الدولي، بل كانت رسالة سياسية مفادها أن كسر الحصار حتى لو بجهد رمزي، هو تهديد يجب وأده.
حركة فرنسا الأبية سارعت إلى إدانة ما وصفته بالانتهاك الفاضح للقانون الدولي، مؤكدة أن اعتراض السفينة واعتقال طاقمها هو عمل غير قانوني يستوجب تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي والأمم المتحدة للإفراج عن النشطاء.
لكن الحادثة تجاوزت البُعد القانوني لتكشف قسوة المعايير التي يفرضها الكيان الغاصب على غزة. اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة وصفت ما حدث بأنه “إرهابٌ منظم”، وأكدت أن الكيان الغاصب يمارس جريمة حرب ممنهجة عبر تجويع سكان غزة ومنع المساعدات من الوصول إليهم.
جريمة الجوع المعلنة
الأرقام وحدها تكشف حجم الكارثة. وفقاً لبيانات برنامج الأغذية العالمي، هناك أكثر من 116 ألف طن من المواد الغذائية مكدسة عند معابر غزة، تكفي لإطعام مليون شخص لمدة أربعة أشهر، ومع ذلك تُمنع هذه المساعدات من الدخول.
أكثر من 470 ألف فلسطيني يعيشون اليوم في مرحلة الجوع الكارثي (المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي)، بينما يمضي أكثر من مليوني شخص في غزة نحو مجاعة مكتملة الأركان.
الواقع أكثر قسوة حين يتعلق الأمر بالأطفال والنساء: 92% من الأطفال دون سن الثانية والأمهات المرضعات لا يحصلون على الحد الأدنى من التغذية، و71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف أم بحاجة إلى تدخل طبي فوري لعلاج سوء التغذية الحاد.
وقد وثّقت منظمات دولية كالصليب الأحمر وهيومن رايتس ووتش أن الحصار المفروض على غزة منذ ما يزيد على 17 عامًا، بلغ ذروة لا يمكن تبريرها أخلاقيًا أو قانونيًا. استخدام التجويع كسلاح حرب ليس فقط جريمة بموجب القانون الدولي الإنساني، بل هو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي الذي يقف متفرجًا.
“مادلين” ليست نهاية القصة
الاعتداء على سفينة “مادلين” ليس مجرد حادثة بحرية معزولة. إنها فصل جديد في قصة حصار طويل يمتد منذ عام 2007، حيث يتحول الغذاء والدواء إلى أوراق مساومة سياسية.
الفلسطينيون في غزة لا يرون في منع السفينة سوى تأكيد إضافي أن الكيان الغاصب ليس معنياً فقط بفرض حصار جغرافي، بل بحصار إنساني شامل يستهدف الحياة اليومية: الصيادون يُمنعون من البحر، الأراضي الزراعية تذبل عطشاً، المخابز تُغلق، والأطفال ينامون على بطون خاوية.
الأمم المتحدة حذرت مراراً من أن الوضع في غزة يتجاوز حدود الكارثة، وأكدت أن سياسة الحصار تتسبب بمجاعة فعلية، تُعد جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.
نداء لا يجب أن يُقابل بالصمت
احتجاز “مادلين” هو اختبار جديد لمدى التزام العالم بمبادئه التي طالما تغنى بها. فالمادة 23 من اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907، واتفاقيات جنيف لعام 1949، والقوانين البحرية الدولية، كلها تضمن حق وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين حتى في أوقات الحروب.
اليوم تُدفع هذه القوانين إلى أقصى حدودها في غزة. لم يعد السؤال: هل ما يحدث قانوني؟ بل أصبح: هل بقي في العالم من يملك الإرادة لتطبيق هذا القانون؟
رحلة “مادلين” وإن كانت قد أُجهضت قسرًا، إلا أنها أشعلت مجددًا نار التضامن، وأثبتت أن الحصار ليس قدراً، وأن صوت الضمير يمكن أن يخترق حتى أسوار التجويع.
فقد كانت “مادلين” الشرارة التي فتحت الطريق أمام قوافل تضامنية أخرى انطلقت بالفعل من تونس والجزائر، لتؤكد أن هذه السفينة لم تكن نهاية الرحلة، بل بوابة أولى لحركات كسر الحصار القادمة.
ما بدأ بمبادرة واحدة يتحوّل اليوم إلى موجة تضامن أوسع، تصرّ على أن تحاصر الحصار نفسه، وتكسر جدران العزل من البحر إلى البر.
على المجتمع الدولي أن يتوقف عن تقديم البيانات الخجولة. غزة اليوم تحتاج مواقف تُحدث فرقًا حقيقيًا. فالوقت ينفد، والجوع لا ينتظر، و”مادلين” كانت فقط بداية الطريق.
اضف تعليقا