على ضفاف الوجع، تنهض غزة كل صباحٍ بأمعاء خاوية وقلوبٍ تتخبط بين الحياة والموت، كأنها مدينة تُكتب كل يوم من جديد بحبر الجوع، وتُقرأ على العالم كمرثيةٍ طويلة لا تنتهي.

تئنّ الأزقّة تحت وطأة حصارٍ خانقٍ تجاوز الخيال، يُطبِق على الأنفاس ويحوّل الخبز إلى حلمٍ بعيد، والماء إلى معجزة مؤجّلة، والدواء إلى أمنيةٍ معلّقة.

هنا في القطاع المنكوب، لا شيء يشبه الحياة سوى استمرار الموت، ومع كل يوم يُطوى من الحرب، تُطوى معه صفحة جديدة من الكرامة المنهكة، فيما تقف المنظمات الإنسانية عاجزةً عن كسر القيد، وتُزهق نداءاتها في رمال السياسة الباردة.

في ظل هذا الصمت الدولي الصادم، تتفجّر التقارير والأرقام كشهاداتٍ دامغة على جريمة حصارٍ متعمّد، تخوضه غزة بصبر شعبٍ يتضور جوعاً، ويقاوم بالظلّ إن أُطفئت أنواره.

حيث تحوّل الحصار الخانق المستمر منذ أكثر من 11 أسبوعًا إلى مشهد مأساوي تُغرق فيه الحياة سكانها في الظلام والجوع. فقد منع الكيان الغاصب لأشهر إدخال أي معونات إنسانية إلى القطاع.

فأغلقت المخابز أبوابها، وتلاشت خزانات الغذاء والدواء، وبات الأطفال يعانون نقصًا حادًّا في أبسط مقومات الحياة. وتشير التقارير الإنسانية إلى أنه منذ 2 آذار/مارس 2025 لم تدخل أي مادة حيوية إلى غزة؛ حتى في منتصف مايو كان نحو نصف المليون شخص على شفا مجاعة كارثية.

هذا الواقع المظلم تتقاسمه آلاف العائلات التي تصبح كل يوم على معركة من أجل لقمة عيش. في مخيمات النزوح والأسواق الخاوية يئن الناس من العطش والجوع. تقول اليونيسيف: إن المخابز تغلق، وشبكة المياه في تراجع، والرفوف تكاد تخلو من الطعام، وشريان المساعدات الإنسانية يكاد ينفد.

الأطفال هم الأكثر تعرضاً للفتك بهذا الحصار. وتحذر منظمة الصحة العالمية من أن ما يقرب من نصف سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون يرزحون تحت ضغوط نقص غذائي حادّ، حيث يواجه نحو 470 ألف شخص “مجاعة كارثية” بحسب تصنيف الأمن الغذائي العالمي.

وتقول المنظمة إن ثلاثة أرباع السكان في مستويات الطوارئ أو الكارثة الغذائية، وهما أعلى درجتين في مؤشر انعدام الأمن الغذائي.

في ظل انعدام الأمن الغذائي هذا، قالت مديرة اليونيسف: إن ما يزيد على 9 آلاف طفل قد دخلوا مراكز معالجة سوء التغذية الحاد منذ بداية العام. فيما يحذر الأطباء من وفاة العشرات بينهم بالفعل بسبب الجوع.

وفي تقريرها الأخير، سجلت وزارة الصحة أكثر من 57 حالة وفاة لطفل نتيجة سوء التغذية منذ بدء الحصار، ويتوقع الخبراء أن 71 ألف طفل و17 ألف أمٍّ ستحتاج معالجة عاجلة من سوء التغذية في الأشهر المقبلة.

وتقول منظمة الصحة: “لا حاجة لانتظار إعلان المجاعة في غزة لنعلم أن الناس يموتون من الجوع والمرض، بينما الغذاء والدواء على بعد دقائق فقط عبر الحدود”.

وبما أن الجوع والماء الملوث كفيلان بتفشي الأمراض، فإن معاناة غزة تزداد على جبهات أخرى. تقول منظمة أطباء بلا حدود: إنّ 20 منشأة صحية على الأقل تعرضت للضرر أو أُخرجت تمامًا من الخدمة في الأسبوع الماضي وحده بسبب قصف الكيان الغاصب.

إن ما تبقى من مستشفيات لا تعمل إلا بصعوبة بالغة، حيث يصف مدير إحدى مشافي الشمال الأوضاع بأنها “تحت حصار تام”؛ فالمرضى يقبعون بلا دواء، والأطباء عاجزون عن الحركة تحت نيران الدبابات والطائرات.

تحذّر منظمة الصحة العالمية (WHO) من أن النظام الصحي بات “يتجاوز نقطة الانهيار”، حتى لو لم تُسقط غارة واحدة؛ فالحصار العسكري يحول حتى الأمراض البسيطة إلى حكمٍ بالإعدام. ووفقًا لتقرير لها، “يقع أهل غزة في حلقة مميتة: سوء التغذية والأمراض تغذيان بعضهما، فيتحول كل مرض عادي إلى احتمال موت، خصوصًا بين الأطفال”، بينما تنهار قدرة الجسم على التعافي.

وتُضيف المنظمة أن مرافق الرعاية الصحية أوشكت على أن تصل إلى الصفر في المخزون، فأدوية الطوارئ ووسائل الجراحة في طريقها إلى النفاد بلا إمكانية للتجديد بسبب الحصار.

وسط هذا الخضم الإنساني، تصدح المنظمات الدولية بالنداءات دون جدوى. فقد ناشدت هذه المنظمات بضرورة رفع الحصار فورًا، وقالت منظمة الصحة العالمية إن “الكثير من أهل غزة يموتون بينما ترتاح المواد الطبية والدوائية على أطراف القطاع”، وحذّر مديرها العام من أن كل يوم تأخير يعني مزيدًا من ضحايا الجوع والمرض.

وبدورها أكّدت مديرة اليونيسف أن القانون الدولي الإنساني يفرض على العالم التحرك لتوفير الطعام والماء والدواء للسكان وتسهيل وصول المساعدات”.

ومن جهته، أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أن طوابير المساعدة الغذائية تقف جامدة على الحدود، وأن العائلات تموت جوعًا، مؤكداً أن الأسر بحاجة ماسة لإيصال الغذاء فورًا.

حتى وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة سجلت في أحدث تقرير لها (الذي يغطي ما بين 15 و22 مايو 2025) أن أكثر من 11 أسبوعًا مرت دون دخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة، مما جعل المواد الأساسية – من طعام ووقود ولقاحات – على وشك النفاد، وطالبت الأونروا مجددًا برفع الحصار والسماح بوصول المساعدات.

كل هذه النداءات بقيت صدى في الفراغ. المساعدات قليلة جدًا وبطيئة جدًا.. وبدلًا من التضامن الدولي للمساعدة، لم تُحرّك صرخة أهل غزة في وجعهم إلا القليل من العواصم.

في كل يوم من الحصار، يسجل التاريخ حكاية جديدة من الألم: طفل يجوع، ورضيع ينزف، ومسن تموت عيناه شوقًا لقطرة ماء. ومع ذلك فإن بعض الحقائق لم ولن تتغير: آلاف الأقوال الشفوية من المنظمات الإنسانية تؤكد أن غزة تحت حصار مدبر يهدد وجود سكانها، وأن الوقت قد نفد.