في غزة، لا يكتفي الموت بالصواريخ، بل يتسلّل أيضًا عبر رغيف الخبز المفقود، وقطرة الماء العكرة، والدواء الذي لا يصل. أرضٌ محاصرة منذ سنوات، لكن الحصار الآن ينهش أرواح السكّان من الداخل، ويشدّ وثاق المجاعة حول أعناق مليونين من البشر، دون أن يهتزّ ضمير العالم.

الجوع… سياسة حرب

“الجميع في غزّة جائع”، تصريح موجز أطلقه برنامج الأغذية العالمي، لكنه يحمل في جوفه مأساة كاملة. مأساة تؤكّدها وكالة الأونروا حين تقول إن “الغذاء والجوع يُستخدمان سلاحًا في غزة”. هو سلاح لا يُسمع له صوت، لكن آثاره أشد فتكًا من القذائف، وأبعد مدى من النيران.

المفوّض العام للأونروا يصف الواقع دون مواربة: “نحن في وضع يُستغل فيه الجوع والغذاء لأغراض سياسية وعسكرية”. في ظل هذا التجويع الممنهج، يقف العالم متفرجًا، في حين أن غزّة لا تطالب بشيء أكثر من حقها في الحياة.

أرقام تفضح الصمت

وفقًا لتقرير صادر عن تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل (IPC) في 14 أيار/مايو 2025، فإن أكثر من93%  من سكّان غزّة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، هذه النسبة المفزعة تعني أن الجوع ليس حالة فردية، بل وباء جماعي يشمل معظم السكان.

أما المقرر الأممي المعني بالحق في الغذاء، فحدّد ما تحتاجه غزة للنجاة: إدخال ألف شاحنة مساعدات يوميًا كحد أدنى. لكن الواقع بعيد كل البعد عن ذلك الرقم، بينما تمضي الأيام بلا حلول، وتواصل الشاحنات غيابها القاتل.

الدواء في مرمى النيران

لم تسلم المستشفيات من هذا العدوان المركّب، إذ يؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن الكيان الغاصب يُمعن في استهداف المستشفيات ومستودعات الأدوية. في حين تعاني المنشآت الصحية من شلل شبه كامل، تتصاعد ألسنة اللهب من مستودعات الأدوية التي طالتها القذائف، بينما أرواح المرضى تُترك فريسة للألم والموت.

وزارة الصحة في غزة رفعت الصوت: “نطالب المجتمع الدولي، والهيئات الإنسانية، بالتحرّك العاجل لوقف العدوان”. لكنها صرخة وسط بحر من التجاهل، ونداء يغرق في صمت المجتمع الدولي العاجز – أو المتواطئ.

ليست المجاعة في غزّة ناتجة عن قحط أو كارثة طبيعية، بل عن قرار سياسي مقصود، تقوده آلة احتلال لا تفرّق بين كبير وصغير، بين مشفى ومخبز. إنها حرب تُخاض عبر الجوع، في عالم يملك القدرة على منعها لكنه اختار أن يصمت.

وفي قلب هذا الصمت، تظلّ غزّة تقاتل.. لا بالرصاص، بل بالصبر، والكرامة، وفتات الأمل الذي لم يسلبوه بعد.