ليس بالحبر بل بالطين والدم والجوع يُكتب التاريخ في غزة، ومن بين الركام، في مدينة اختلط فيها الرماد برائحة الخبز المحترق، ترتفع صرخة بلا صوت، تخبر العالم أن في هذا المكان، هناك من لا يزال يقاتل للبقاء، لا بسلاح، بل برغيف من الخبز.

في غزّة، المجاعة ليست مجرد عنوان لأزمة إنسانية، بل قصيدة مأساوية تُكتب بأجساد الأطفال وأرواح الأمهات. الكارثة تتجاوز الجوع، تتجاوز العطش، تتجاوز الحصار، إنها إبادة ببطء ووعي كامل.

في سباق هذه المأساة، قال مدير الاتصال في وكالة “الأونروا”: “الوضع الراهن في غزة أشبه بأهوال يوم القيامة”. ولم يكن ذلك توصيفاً أدبياً، بل تقريراً واقعياً عمّا يجري في واحدة من أكثر بقاع الأرض تكدّساً بالبشر والألم. ومع إعلان برنامج الأغذية العالمي قبل أيام عن تسليم “آخر الإمدادات إلى مطابخ الوجبات الساخنة، المصدر الغذائي الوحيد في غزة”, يُغلق باب آخر في وجه الحياة.

بينما يعيش أكثر من مليون طفل فلسطيني تحت خط الجوع، أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة أن 65,000 طفل نُقلوا إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية الحاد. لكن هذه المستشفيات، كما أكد مدير المستشفيات الميدانية، “لا تملك شيئاً لتقدمه. الجرحى يموتون بين أيدينا بسبب النقص الشديد في الإمكانيات والأدوية.”

في لغة الإغاثة، يُقال “عائلات تقتات على ما تجده”. لكن الواقع أبشع من اللغة. فقد ذكرت وكالة “الأونروا” أن العائلات باتت تبحث في الركام، وفي ما تبقّى من فتات الذاكرة، عن طعام يُبقي الأطفال على قيد النَفَس.

وفيما يحاول العالم التماهي مع العبارات المعتادة عن “القلق العميق” و”الدعوة لضبط النفس”، خرج مسؤول أممي عن هذا الإطار ليقولها بوضوح: “غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية.” وأضاف مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أنًّ ما يحدث في قطاع غزة ليس أزمة إنسانية، بل اعتداء على كرامة الناس.

أمام كل هذا، يقف حصار الكيان الغاصب كجدار لا يسمح حتى بمرور الهواء. يتعمّد الكيان الغاصب حرمان القطاع من المساعدات الغذائية والطبية، ويمنع دخول الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات تحلية المياه. هذه السياسة ليست إلا حربًا على الحياة.

ما يجري في غزّة اليوم ليس نتيجة عرضية لحرب، بل هو فصلٌ مرعب من كتاب العقاب الجماعي، تُكتَب سطوره بإصرار لا يعرف الرحمة. ليس الانهيار الإنساني في القطاع مجرد تداعيات جانبية للحرب، بل هو سياسة مدروسة، تنهش لحم الحياة اليومية بلا توقف.

فكل منع لإدخال الغذاء هو قرار بالموت، وكل حظر على الأدوية هو ترخيص بالاحتضار. الطرقات المقطوعة ليست فقط عوائق مادية، بل شرايين مغلقة في جسد مدينة تنزف من الداخل، إنّها حرب ضد فكرة أن يعيش هذا الشعب، لا ضد سلاح ولا تنظيم.

ومع استمرار الحصار وغياب أي أفق لحل جذري، لا تبقى للغزّيين سوى ذاكرة الخبز، وحديث عن طوابير المياه، وحكايات عن أطفالٍ باتوا لا يحلمون بفاكهةٍ أو حلوى، بل بأدنى ما يليق بطفولتهم من حقٍّ في الحياة، في سرير لا يجاوره الموت، وتحت سقف لا ينهار فوق رؤوسهم.

ما يحدث اليوم في غزّة ليس مأساة صامتة. إنه تاريخ يُكتب من دموع الجياع وصبر الأمهات وأنين الجرحى. وفي ظل تواطؤ الصمت، وتخاذل العجز، ستبقى غزّة تقول للعالم: لسنا مجرد أرقام. نحن بشر، نعيش، نأكل، نحلم، ونموت… جوعًا.