في خيمةٍ نُصبت على أجزاء من ركام قرب مستشفى ناصر في خانيونس في قطاع غزة، لم تكن النية أن تُرفع راية، ولا أن تُشهر بندقية. كانت الخيمة صوتاً، بارقة ضوء وسط ظلام الإبادة، محطة صغيرة لجنود الكلمة الذين يكتبون بالدم قبل الحبر.

هناك، حيث كانت العدسات تروي للعالم وجع غزة، قرّر الكيان الغاصب أن يطلق أرطال قنابله لا على مقاتلين، بل على الحقيقة.

في جريمة جديدة تُضاف إلى سجل الكيان الغاصب الحافل باستهداف كل ما هو إنساني، قصفت طائرات الكيان خيمةً للصحفيين قبل أيام، ما أسفر عن استشهاد الصحفي حلمي الفقعاوي، وبعدها الغارة بساعات، أعلنت المصادر الطبية عن استشهاد الصحفي أحمد منصور، ليصبحا الرقمين (210) و(211) في قافلة شهداء الكلمة منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.

إنها ليست مجرد أرقام. إنهم مرايا غزة، حراس ذاكرتها، شهودها الذين اختاروا أن يكونوا على خط النار ليقولوا للعالم: هنا يُقتل الناس، هنا يموت الأطفال وهم يلوّحون للسماء، هنا تُذبح الحقيقة مرتين؛ مرة بالرصاص، وأخرى بالصمت.

المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أصدر بيانًا شديد اللهجة، عبّر فيه عن الغضب والمرارة، قائلاً:” ندين بأشد العبارات استهداف وقتل واغتيال الاحتلال ‘الإسرائيلي’ للصحفيين الفلسطينيين، وندعو الاتحاد الدولي للصحفيين، واتحاد الصحفيين العرب، وكل الأجسام الصحفية في العالم لإدانة هذه الجرائم الممنهجة ضد الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين في قطاع غزة.

البيان لم يكتفِ بالإدانة، بل حمّل الاحتلال وحلفاءه — من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وألمانيا وفرنسا — مسؤولية الجريمة، داعيًا إلى تحرك عاجل من المؤسسات الصحفية والحقوقية في العالم، لوضع حد لهذا المسلسل الدموي.

إن استهداف الصحفيين هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن حماية المدنيين، بمن فيهم الصحفيون، بموجب المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، والتي تنص بوضوح على أن “الصحفيين العاملين في مناطق النزاع يجب أن يُعاملوا كمدنيين، ويجب أن يُحترموا ويُحموا طالما لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.”

وقد أكّد ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كما جاء في قرار الجمعية العامة رقم 1738 الصادر عام 2006، على ضرورة حماية الصحفيين في مناطق النزاع، داعياً إلى محاسبة كل من يرتكب جرائم بحقهم.

وفي مشهد الصمت الدولي، علت بعض الأصوات التي لم تبتلع ضميرها. منظمات صحفية وحقوقية نددت بالجريمة، ووقفت مع شعب غزة وصحفييها، مؤكدة أن هذا التصعيد الممنهج ضد الإعلاميين الفلسطينيين يهدف إلى طمس الحقيقة، وعزل القطاع عن العالم.

لكن غزة، رغم الركام، لا تصمت. عدساتها مرفوعة، وميكروفوناتها تُنبت وردًا من دم. وغزة تُعرّف: من يحمل الكاميرا في وجه الطائرة لا يموت، بل يتحول إلى أيقونة… ووصية.

وصية تقول للعالم: نحن لا نوثق الموت فقط، نحن نحيا لنحكي، ونُستشهد لنكون صدى الحقيقة في كل مكان.