في ظلال واقع يزداد تعقيداً كل يوم، يقف الدكتور حسام أبو صفية عنواناً جديداً لقضيةٍ قديمة تُعيد كتابة مأساة الإنسان الفلسطيني بأسلوب يضع القوانين الدولية في موقع السؤال، ومعها منظومة قيم العدالة والإنسانية.

حسام أبو صفية، ذلك الطبيب الذي كانت يداه تعملان بمهارة لترميم الجراح، يقبع الآن بين جدران زنزانة باردة. ليس ذنبه إلا أنَّه اختار البقاء في غزة، تلك الأرض التي لا تعدو كونها شريطاً ضيقاً على الخريطة، لكنها في الواقع فضاءٌ واسع للمقاومة والصمود.

مدير مستشفى كمال عدوان الذي كان يعمل بلا كلل لإنقاذ الأرواح، أصبح اليوم ضحيةً لاحتلالٍ يرى في كل فلسطيني مشروع تهديد، حتى لو كان طبيباً لا يحمل إلا سماعة ومشرطاً.

اعتقال أبو صفيّة جاء بناءً على قانون “المقاتل غير الشرعي”، وهو مصطلح يبدو وكأنه خرج من روايةٍ خيالية، لكنه في الحقيقة نص قانوني فضفاض وُضع ليكون سيفاً على رقاب الفلسطينيين.

هذا القانون، الذي يمنح الكيان الغاصب صلاحية اعتقال الأفراد دون محاكمة عادلة أو حتى تهمة واضحة، يجسد قمة الاستهتار بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

في حالة أبو صفية، يبدو أن تهمته الحقيقية ليست سوى كونه إنساناً رفض الهروب، وبقي ليحمي حلم وطنه بجسدٍ أعزل وروح لا تنكسر.

 

اعتقال من نوع آخر

 

إن اعتقال الدكتور أبو صفية لا يمثل مجرد توقيف أكاديمي أو طبيب فقط، بل هو ضربةٌ موجهة إلى كل من يحاول بناء وطنه رغم القيود.

أبو صفية، المعروف بعمله الدؤوب لتحسين القطاع الصحي في غزة، أصبح فجأة في مواجهة قانون يُعامله وكأنه “خطر متحرك” على أمن الاحتلال، بينما كانت حياته مكرسة لإنقاذ الأرواح، لا تهديدها.

يصف زملاؤه في المجال الطبي “أبو صفية” بأنه رجلٌ يتمتع بالهدوء والإنسانية، بعيدٌ كل البعد عن أي نشاط سياسي أو عسكري.

هذا الاعتقال أثار موجةً من الغضب داخل الأوساط الحقوقية والإعلامية، إذ إن القوانين الدولية، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، تُلزم سلطات الاحتلال بتوفير حماية للأكاديميين والأطباء، لا أن تجعلهم ضحايا سياساتها القمعية.

 

تداعيات قانونية وإنسانية

 

غالباً ما يستخدم الكيان الغاصب قوانينه كأداة لترهيب الفلسطينيين وكسر إرادتهم. قانون “المقاتل غير الشرعي”، الذي يُشرعن احتجاز الأفراد بناءً على “شبهات أمنية” دون محاكمة، لا يُخالف فقط القوانين الدولية بل ينسف أسس العدالة.

وفي حالة أبو صفية، فإن اعتقاله لا يؤثر عليه شخصياً فحسب، بل يعكس الضرر العميق الذي يلحق بالمجتمع الفلسطيني بأكمله. حرمان المجتمع من طبيب بارز يشكل أزمة إنسانية وصحية، خاصة في منطقة تعاني بالفعل من نقص في الكفاءات الطبية بسبب حصار الكيان.

 

ردود الفعل

 

أثارت قضية الدكتور أبو صفية استياءً واسعاً في أوساط المنظمات الحقوقية الدولية. منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان” أصدرت بياناً أكدت فيه أن “اعتقال الأكاديميين والطواقم الطبية يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني”. وطالبت بالإفراج الفوري عنه وضمان محاكمة عادلة إذا كانت هناك أي اتهامات مثبتة بحقه.

من جهته، اعتبر مركز الميزان لحقوق الإنسان، في بيان، أن تحويل أبو صفية إلى “مقاتل غير شرعي” إجراء تعسفي وخطير وغير قانوني وانتقامي، وهو في الوقت نفسه يثبت فشل النيابة العامة في إثبات ادعاءاتها وما تنسبه للمعتقل من اتهامات، وأكد أن اتباع هذه الأساليب مع المدنيين، ولا سيما الأطباء، من تعذيب أفضى في مرات سابقة للوفاة وسوء معاملة.

ورغم عدم وجود أي أدلة لاتهام أبو صفية بأي مخالفة، فإن النيابة العامة اختارت حرمانه من أبسط حقوقه في المحاكمة العادلة بتحويله إلى رهينة.

أما المجتمع الدولي، الذي غالباً ما يقف موقف المتفرج في مثل هذه القضايا، فقد اكتفى ببعض التصريحات التي تدعو إلى “ضبط النفس” و”احترام القانون”. تصريحاتٌ قد تبدو رنانة، لكنها خالية من أي أثر عملي على الأرض.

 

اعتقال الجسد لا الروح

 

لكن قصة أبو صفية ليست مجرد حكاية اعتقال. إنها قصة صراعٍ بين إرادةٍ حرة وآلة قمع لا تعرف الرحمة. فبين جدران الزنازين، حيث يحاول الاحتلال قمع روح أبو صفية، يُظهر الفلسطيني مرة أخرى أن السجن ليس سوى مكانٍ مادي. الروح لا تُعتقل، والأمل لا يموت.

في تصريح لأحد أفراد عائلته، قال: “اعتقال حسام هو محاولة لاعتقال الأمل فينا، لكنه كان دائماً يقول لنا إن الاحتلال لا يستطيع هزيمة الإيمان بعدالة قضيتنا”.

 

صرخة إلى العالم

 

قضية الدكتور حسام أبو صفية ليست مجرد قضية فردية، بل هي رسالة إلى العالم بأسره. الكيان الغاصب، الذي يُشرعن القمع بالقوانين، لا يستهدف الأفراد فحسب، بل يعتدي على جوهر الإنسانية.

ولم يكن أبو صفيّة أول المستهدفين من قبل الكيان الغاصب في أروقة المستشفيات التي تحولت إلى خطوط دفاع أولى في وجه القصف والحصار، فقد شهدت حرب الإبادة الجماعية في غزّة ارتقاء 1068 شهيداً من الكادر الطبي، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

إن استمرار الصمت الدولي عن مثل هذه الانتهاكات يُعد وصمة عار في جبين البشرية. المطلوب اليوم ليس مجرد بيانات تنديد، بل ضغط حقيقي على الاحتلال لإيقاف استخدام قوانين جائرة مثل قانون “المقاتل غير الشرعي” الذي يُنتهك فيه كل مبدأ إنساني.

الدكتور حسام أبو صفية اليوم هو أسير ليس فقط للاحتلال، بل لواقع عالمي يفضل التغاضي عن معاناة شعب بأكمله.

لكن تظل قضيته شاهداً على أن الحرية ليست مطلباً، بل حق لا يُمكن التنازل عنه. في ظلال الاحتلال، يظل الفلسطيني يُقاتل من أجل البقاء، ويظل العالم مدعواً للنظر في مرآة ضميره، ليرى إن كان حقاً يستحق هذا الاسم.