في قلب فلسطين، تلك الأرض المباركة التي شهدت ميلاد الحضارات وتلاقي الأديان، لا يكاد يخلو مكان من بصمة الألم والمعاناة، من بحرها إلى نهرها، بسبب هذا الكيان غير الشرعي.

لقد امتدت يد الغدر لتطال كل زاوية من زواياها، ليس فقط من خلال اغتصاب الأرض وسفك الدماء وتدمير كل ما هو حيّ فيها، بل عبر محاولات جبانة لطمس هويتها الثقافية والدينية، تلك الهوية التي امتزجت بعبق التاريخ وأصالة الحضارة الإسلامية. فالمساجد والكنائس التي هي رموز تحتفظ بأسمى معاني الإيمان والجهاد، باتت اليوم أهدافاً للاحتلال الذي لا يكتفي بالتهجير والتدمير، بل يتطلع إلى محو ذاكرة الأمة وتجريدها من معالمها التاريخية.

وفي طليعة هذه المعالم الدينية، يقف المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، شاهداً على صراع تاريخي طويل بين أصحاب الأرض والاحتلال.

هذا المسجد، الذي شيده باسم نبي الله إبراهيم عليه السلام، كان وما يزال رمزاً للقداسة والتاريخ. لكنه أصبح هدفاً رئيسياً للممارسات العدوانية التي يسعى الاحتلال من خلالها إلى تهويده، وتغيير معالمه وطمس هويته.

ومن أبرز الانتهاكات كانت مجزرة الحرم الإبراهيمي ما حصل عام 1994، عندما أقدم المستوطن “باروخ غولدشتاين” على قتل ثلاثين فلسطينياً أثناء الصلاة، حيث حولت قوات الاحتلال المسجد بعد المجزرة إلى ثكنة عسكرية، وفرضت قيوداً على الزوار. كما تم تقسيم المسجد إلى جزئين؛ أحدهما للمستوطنين الغاصبين والآخر للمسلمين، مع إغلاق القسم المخصص للمسلمين في ساعات الليل. 

في هذا السياق، صدرت تصريحات جديدة من قبل عضو الكنيست عن حزب اللّيكود لدى الاحتلال “أفيحاي بوفارون”، يوم أمس الأحد، والذي طالب فيها بمصادرةالحرم الإبراهيمي الشّريف، والسّيطرة عليه، ووضعه بشكل كامل تحت سيادة الاحتلال من خلال إلغاء ما يتعلق بالسّيادة الفلسطينيّة عليه في اتفاقات أوسلو.

وقد أكدت الأوقاف في بيان لها، “أن هذه التصريحات تأتي ضمن السياسة الممنهجة الخطيرة لحكومة الاحتلال التي تعمل جدياً للاستيلاء على هذا المكان المقدس إسلامياً، والمعترف به دولياً كوقف إسلامي يمتلكه الشّعب الفلسطينيّ.

وطالبت الأوقاف المؤسّسات الدّولية الحقوقيّة والأمميّة، التي تُعنى بالتّراث العالمي؛ كمؤسسة اليونسكو الذي يعتبر الحرم الإبراهيمي الشّريف ضمن لوائح التّراث العالميّة، وأبناء شعبنا الفلسطيني في محافظة الخليل وغيرها من محافظات الوطن؛ بالوقوف بحزم أمام تنفيذ هذه المخطّطات التي تهدد هوية الحرم الإبراهيمي الشّريف، وتأكيدالسّيادة الفلسطينيّة عليه، من خلال تكثيف الوجود فيه، والوقوف سداً منيعاً في وجه هذا الاحتلال الظالم.

والجدير بالذكر، أن الاحتلال كان قد أقدم منذ أشهر قليلة على إصدار قرار لتسقيف صحن الحرم الإبراهيمي بألواح الحديد والإسمنت، مما أدى إلى حالة رفض كبيرة من أبناء شعبنا الفلسطيني على هذا القرار من خلال تأكيدهم أن هذا انتهاك كبير بحق قدسية وإسلامية هذا المكان الطاهر والمقدس، ولن يتم تنفيذ مخطط تهويد الحرم الإبراهيمي المقدس من قبل الكيان الغاصب، ونتيجة لهذا الضغط والرفض الكامل تراجع الكيان عن اعتدائه.

إن ما يحدث في هذا المكان المقدس ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الاعتداءات على الأرض والعرض والمقدسات، ومحاولة دؤوبة لتحويل التاريخ إلى مجرد ذكرى باهتة، لكن فلسطين، بأرضها وشعبها الصامد وأيقوناتها المقدسة، ستبقى صامدة وتروي قصتها مهما طال الزمن، ولن يستطيع أحد أن يمحوها.