مقال رأي للمفكر الفلسطيني الأستاذ منير شفيق:

هذا التجمع العربي الكبير في ملاعب المونديال، وعلى امتداد البلاد العربية كافة، تحشّد من أجل مشاهدة المونديال، وإذا به يتحوّل عفوياً إلى شاهد على وجود أمّة عربية تتمسّك بقضية فلسطين، وراح يأتي في كل مباراة شارك فيها فريق عربي، بما لم يخطر ببال أحد أن يحدث في المونديال ما حدث. مثلاً، ما تلقاه مراسلوا الكيان الصهيوني من صدمات مقاطعة، وعدم الاعتراف بشيء اسمه “إسرائيل”، وإنما بفلسطين، من جانب كل من حاولوا مقابلتهم من عرب.

وهكذا كانت هذه أول صدمة يتلقاها الكيان الصهيوني وظاهرة التطبيع، رغم أنهم رمزوا كثيراً بأن “التطبيع” هو سمة المستقبل العربي القادم. ثم جاءت الصدمة الثانية بارتفاع العلم الفلسطيني ونزوله ليرفرف في الملعب، حتى وصلنا إلى شبه إجماع على القول بأن المونديال تحوّل عملياً، وعفوياً وبلا افتعال، إلى مونديال لفلسطين وعدالتها عالمياً، ومركزيتها عربياً وإسلامياً، وتأييدها عالمياً.

هذا البُعد يجب أن يُسجّل أولاً، وقد تنازل له البعد الثاني، عن أولاً، لا كرماً ولا تواضعاً، وإنما عن حب لأن فلسطين منه، ومن دمه ولحمه.

 

البُعد الثاني

البعد الثاني جاء من خلال انحياز عربي عام لكل الفرق العربية التي شاركت في المونديال. وقد أخذ هذا الانحياز يتصاعد، ويأخذ تجليه الأعلى مع كل إنجاز راح يحققه الفريق المغربي المدهش، والذي وصل إلى إنزال هزيمة بفريق البرتغال، وقد أبكى البطل رونالدو، وهو يدخل مكانه في دور الأربعة.

من راقب مواقف الجماهير العربية المشاركة في حضور المونديال، وتابع مواقف الجماهير العربية على المستوى العربي، يجدها قد جعلت الفريق المغربي الفريق العربي للأمة العربية. وكان هذا سيحدث، بناء على ما شاهدنا، مع أي فريق عربي آخر، لو كان مكانه، أكان تونسياً أم جزائرياً، أم مصرياً، أم عراقياً، أم خليجياً.

هذا الذي حدث صرخ في آذان الجميع “وأسمعت كلماته من به صمم”؛ أن ثمة أمّة عربية واحدة شاء من شاء، وأبى من أبى، ولا تفسير لما حدث غير هذا التفسير.

لقد ذهب عبثاً من حاول تفسير الظاهرة بإبراز كل ما يبعد دلالتها على وجود أمّة عربية، وهويّة عربية جامعة، على الرغم مما يسود من تجزئة وهويّات فرعية ذهبت الجماهير من خلالها لحضور المونديال.

 

صحيح أن الجماهير عبرت عاطفياً عن تلك الحقيقة، ولكن بأيّ حق وبأي علم يمكن أن يبرز ما بدا من عواطف، سواء ما سميّ بالفرح الذي خرج من الكبت أو من القمع، أو ما شئت من أسباب؟ فالعاطفة أو العواطف لا توجد من دون الوعي والعقل والوجود الأصلي للإنسان، بل هي جزء من عقلانية ووعي محددين. ولهذا يخطئ من يقرأ أيّة عاطفة بعيداً عن العقل الذي يحملها، فتعدّد العواطف إزاء حدث معين، أو قل ما حدث في المونديال، دليل على تعدّد العقول، وتعدّد الوعي في الآن نفسه.