على خُطى ريتشل

على خُطى ريتشل

إن رأيته ضاحكاً فلن تفارقَ وجهَه سيماءَ الوقار، أو تأملتَه وهو يحدثك عن قصته المؤلمة فلن تفتقد في محيَّاه انبساطَ الأسارير، ولا آيات الوداعة والسماحة.

يصافحك بيد تحتوي أصابعك بلطف ووداد، حتى ليبقى دفءُ كفِّه في يدك للحظات، ويظل صدقُ السَّلام معك، ورغم اختلاف اللغة بينك وبينه، وبُعدِ احتمال اللقاء بينكما، إلا أنك تكاد تجزم بأنك ربما صادفته مرة على الطريق المؤدية إلى كنيسة المهد، أو ربما جلست معه لتناول الشاي قرب الحرم الإبراهيمي في الخليل، ولعلك سايرته صعودا على الدرجات الطالعة نحو ساحة قبة الصخرة.

المهم أنك متأكد من أنه إنسان مألوف لديك، ألفة تنتمي عبر نسَب صحيح إلى درب من دروب فلسطين.. تلك الدروب التي درج عليها السيد المسيح خلال طفولته، والتي شهدت بشارته وعذاباته مع يهود بعد ذلك بسنين.

ستذكر مريم عليها السلام حتماً وأنت تجالسه، لأنه من الممسكين عن هَذْرِ الكلام، يقول قليلاً، وكأنه نذر للرحمن صوماً أو يكاد. ولكنه يوحي لك بالكثير… كثير تنطق به عيناه، وتقاسيم وجهه المفعمة بالسهولة والرفق، ونظارته الرقيقة التي تنسجم بذكاء مع هذه الطلعة الأليفة.

أنا لم أعلّم ريتشل هذا، ولم أكن أنا أو أمها من هداها إلى هذا الطريق… هكذا قال لي، ثم أضاف وعيناه تؤكدان كلماته: (بل نحن من تعلمنا منها، وبعيونها رأينا العالم، ومن نافذتها أطللنا على فلسطين).

حكى عن تلك الأيام الأولى التي أعقبت استشهاد ريتشل: لا زلت أذكر أول لقاء خاص لي مع إنسان مسلم، كان شيخاً جاء ليشاركنا مأساتنا باستشهاد ريتشل، وصادفتْ زيارتُه وجود حاخام يهودي قَدم لمواساتنا أيضاً.

تحضرني دوماً كلمات استحضرها ذلك الشيخ من تراثه الإسلامي، وأثرت فيّ بعمق وكأنها كانت تخاطبني أنا بالذات، رغم أنها قيلت قبل وجودي بقرون مديدة. روى لنا كلمات تقول: عندما ينتقل الإنسان من هذه الحياة الدنيا، فإنه سيترك وراءه كل شيء، وفي مقدمة ذلك ماله وعائلته، ولكن شيئاً واحداً سوف يصاحبه خلال رحلة الموت، وما بعد الموت، إنه عمله، أعني الأمور المفيدة التي أنجزها في هذا العالم، وقام بها بمحبة وإخلاص.

يا إلهي..! يبدو لي أن ريتشل كانت تعي ذلك تماماً.
نعم. لقد فهمت ريتشل هذه الحقيقة الواضحة التي يمكن أن تغيب عن ذهن أكثر الناس بسبب انشغالهم بالأمور الصغيرة التي تتكرر وتتكرر كل يوم، حتى تستهلكنا ونضيع في زحامها، ونغفل عن رؤية الأفق الواسع الجميل.

يبدو أنها كانت صاحبة حكمة وبصيرة، جعلتها تهتم بما هو مشترك بين جميع الناس، ولذلك أحبت منذ طفولتها أن تكون فنانة موسيقية، كما أخبرتْ بذلك صديقاً لي في العمل، يوم صحبتها معي إلى المكتب ذات يوم وهي دون السابعة من عمرها.

كانت تفكر في أن وجودها هو في تلك المساحة التي يتشارك جميع الناس الاهتمام بها، المساحة التي تجعلك تفكر في الفن والحب والعدل، في الطفولة والفقراء والمرضى والمحتاجين، وتشعر بأن ما يصيبهم فإنه يصيبك أنت أولاً وبدون تخفيف.

تفكر في ذلك كلّه ؟ نعم. ولكن لا يكفي التفكير وحده.
بل لابدّ من شيء مهم جداً، عبّرت عنه ريتشل في رسالتها الأخيرة، عندما كتبت: (أعتقد أن أي عمل أكاديمي، أو أية قراءة، أو أية مشاركة في مؤتمرات، أو مشاهدة أفلام وثائقية، أو سماع قصص وروايات… لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا – في فلسطين المحتلة – ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك سوف تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي).

أعتقد أن ريتشل غادرت هذه الحياة وبصحبتها عمل عظيم.
لقد استطاعت ريتشل من خلال مشاركتها لأولئك الذين يعانون كل الصعوبات تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومن خلال استشهادها فداءً لبيت يضمّ أسرة فلسطينية تبحث عن الأمان… استطاعت أن تُسقط الكثير من الأقنعة المزيفة التي يتجمّل بها الاحتلال، وأن تفتح عيوننا لنرى العالم ومنطقة الشرق الأوسط وفلسطين وما يجري فيها رؤية جديدة أقرب إلى الحقيقة، وربما تساعدنا هذه الرؤية على القيام بعمل مفيد للإنسانية والإنسان.

بقلم الأستاذ الشّيخ محمّد أديب ياسرجي- عضو الحملة العالمية للعودة والملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين.

 

 

2018-04-30T00:00:00+03:00

شارك هذه الصفحة, واترك رأيك حول الموضوع باستخدام وسيلة التواصل التي تناسبك!

اضف تعليقا

اذهب إلى الأعلى