في منتصف شهر مارس الماضي، كان لي شرف المشاركة بالملتقى الدولي الرابع للتضامن مع فلسطين في العاصمة اللبنانية بيروت، والذي جمع أكثر من 400 شخصيه فلسطينية وعربية ودولية، حيث تحاورنا وتوحدت أصواتنا وهتفنا معا “كل القدس عاصمة لكل فلسطين”.. كان الملتقى فرصة لنا لإلقاء نظرة على الأرض التي عشقناها من سفوح المرتفعات الجبلية في الجنوب اللبناني، كانت إطلالة على الوطن من حدوده الشمالية بالقرب من بوابة فاطمة، حيث كانت المشاهدات التي شدتنا بلمسات مفعمة بالحنين إلى الأرض التي ترعرع على ثراها جيل الآباء والأجداد، وشكلت أغلى الذكريات عن الأهل والوطن الجميل.
لقد أتاح لنا هذا الملتقى الاجتماع بالكثير من النشطاء المتضامنين مع فلسطين حول العالم، إضافة للعشرات من الشباب الفلسطيني، الذين جاؤوا من القدس والضفة الغربية، تلك الأماكن العزيزة على قلوبنا والتي حَرمنا الاحتلال من زيارتها!! فكوني فتاة من غزة لم يكن بإمكاني أن تكتحل عيني بزيارة الشق الآخر من الوطن، والذي فيه الكثير مما نحب ونعشق من الأشقاء والأقارب والمقدسات.
كانت الأيام الأربعة التي قضيناها معاً مثقلة بالالتزامات والتحركات، حيث كنا نتفكر في أحوال بلادنا، ويجمعنا الحديث حول مسيرة العودة والجهد المطلوب من كلٍّ منَّا بذله لإنجاحها.. لم نكن نعرف للنوم طعماً، حيث كان للمسيرة حديث النهار؛ نُقلب فيه الأمور ونطرح الأفكار، ونتبادل فيما بيننا الرأي والمشورة، وفي الليل نسهر على حكايا الوجع الفلسطيني؛ فابن القدس يصف لنا حجم المعاناة اليومية التي يواجهها مع جيش الاحتلال وغلاة المستوطنين، وابنة الضفة تصف لنا أساليب الإذلال والمهانة التي يتعرضون لها في الصباح والمساء على الحواجز الإسرائيلية.. وأنا بدوري كنت أروي لهم مشاهد الحروب التي تعرَّض لها أهالي قطاع غزة، حيث كانت استراتيجية العدو تعتمد أسلوب “الصدمة والذهول”، في عملية استهداف وقتل طالت العُزَّل والأبرياء من المواطنين، وتدمير ممنهج للأحياء السكنية، بهدف بث الرعب والخوف بين المدنيين، وبشكل يعتبر في القانون الدولي بمثابة جرائم حرب، وانتهاكات يتم تصنيفها بحسب وثيقة جنيف الرابعة بأنها جرائم بحق الإنسانية.
كان الكثير ممن شاركونا حضور المؤتمر ينتمون إلى جنسيات مختلفة، وجاؤوا من بلدان متباعدة وقارات متعددة، وكان ما يجمعهم أنهم من أصحاب الضمائر الحيَّة، وأيضاً من نشطاء حقوق الإنسان حول العالم، والذين هبُّوا للوقوف معنا وإظهار التضامن وشدِّ الأزر، فمسيرة العودة هي حق مشروع للفلسطينيين، الذين تتعرض قضيتهم للطمس والتغييب، وخاصة في ظل السياسة الأمريكية المنحازة، والتي يقودها الرئيس ترامب بدرجة انحراف عالية، لإرضاء مواقف اليمين المتطرف في إسرائيل، بخلاف ما عليه الموقف الأممي الداعم لحل الدولتين.
مسيرة العودة: المهاتما غاندي يظهر في غزة
لا شك أن كل من فكَّر في مسيرة العودة قد استحضر سيرة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، الذي قاد نضال شعبه ضد الاستعمار البريطاني.. لقد أسس غاندي ما عرف في عالم السياسية بـ”المقاومة السلمية” أو فلسفة اللاعنف (الساتياغراها)، وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد، ملخصها: الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق، وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولاً، ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر.. لقد اعتقد غاندي نفسه أنه في حالات معينة ربما يصبح العنف خياراً استراتيجياً مناسباً.. وقال: أنا أؤمن أنه إذا تعذر وجود خيار آخر بين الجبن والعنف، فإنني أنصح بالعنف… ومن ثمَّ أؤيد التدريب على الأسلحة لأولئك الذين يؤمنون بأسلوب العنف. إن من الأفضل للهند أن تلجأ إلى السلاح من أجل الدفاع عن شرفها، إذا ما كان الخيار الآخر هو الظهور بمشهد الجبان العاجز عن حماية شرفه الخاص.
لقد جرَّب الفلسطينيون خلال السنوات العشر الماضية تحدي الاحتلال من خلال ممارسة حقهم في الكفاح المسلح والذي كفلته الشرائع والقوانين الدولية، وتصدوا ببسالة لحروب ثلاث فرضت عليهم، وشكلوا بصمودهم إنجازاً أحرج كيان الاحتلال.
اليوم، وفي ظل محاولات إسرائيل تسويق المقاومة الفلسطينية إرهاباً، جاء تبني هذا الخيار بالتوجه إلى المقاومة السلمية، وإرباك هذا الكيان بالتأكيد على تفعيل حق العودة من خلال هذه المسيرة الكبرى، والتي بدأت انطلاقتها في “يوم الأرض”بتاريخ 30 مارس الماضي، وسوف تستمر ليوم مسيرة العودة الكبرى في 15 مايو القادم، وهي ما يجري الإعداد لها في الداخل والخارج، لتكون يوماً مشهوداً في تاريخ النضال الفلسطيني، ولن تنجح – بإذن الله – أية ذرائع إسرائيلية لتبرير اعتداءاتها على تحركات سلمية لشعب قرر العودة سلمياً إلى أرضه المحتلة.
إن المهاتما غاندي يُبعث اليوم من جديد على مستوى الفكرة والممارسة، مع إبداعات فلسطينية لإثراء التجربة ودحض الرواية الإسرائيلية، التي يتم الترويج لها في الغرب بأنها أنهت الصراع مع الفلسطينيين، ولم يعد هناك بينهم من له مطالب!!
في الحقيقة، كان غاندي حاضراً معنا في بيروت وفي الجنوب اللبناني، من خلال حفيده الذي شاركنا اللقاء، وأسهم في تحريك الوعي بفعالية ما كان يقوم به جده في الثلاثينيات والأربعينيات من تحدي لسطوة القوة العسكرية البريطانية، ومطالبته بالحرية وإنهاء الاحتلال.
إن كلمة السيد توشار غاندي؛ حفيد الزعيم الوطني المهاتما غاندي، كانت مُلهمة لنا، حيث تحدث عن “معركة الحق”، التي خاضها جده في نضاله ضد المستعمر البريطاني، قبل أن تنال الهند استقلالها عام 1947، وذكَّرنا بمقولته الشهيرة: “إن الوقت قد حان لنيل حريتنا أو الموت من أجلها، لا يوجد هناك طريق آخر”.
وأشار السيد توشار في كلمته لنشطاء مسيرة العودة الكبرى إلى أن الشعب الهندي حارب بكل السبل المتاحة لنيل حريته، وهذا ما فعله كذلك الفلسطينيون في الماضي والحاضر، ووجه السيد توشار التحية لشهداء فلسطين، الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أن ينال شعبهم يوماً الحرية والاستقلال، مشيراً إلى أن تلك الدماء لن تذهب هدراً، وستعبد الطريق للفلسطينيين للعودة إلى بلادهم.. وختم كلمته قائلاً: “يبدو أن الوقت قد حان لكم للعودة إلى أرضكم، وهذا يوجب عليكم أن تبدأوا – الآن – رسم طريق العودة”.
أما السيد فيروز ميتروبولا؛ مؤسس منتدى التضامن الهندي الفلسطيني، فقد عبر هو الآخر عن أهمية المؤتمرات الداعمة للقضية الفلسطينية، من أجل إيجاد حلفاء دوليين حول العالم مناصرين لهذه القضية وأهلها، وأيضاً بهدف توفير الدعم لمسيرة العودة الكبرى، والتي يجري التحضير لدعمها في الكثير من البلدان حول العالم.
إن المهاتما غاندي لم يغب حتى عن تعليقات العديد ممن كتبوا عن توصيف مشهد المسيرة، والأداء السلمي الذي قدمته في أسلوبها الاحتجاجي اللاعنفي، الأمر الذي استدعي أوري أفنيري؛ الكاتب الإسرائيلي في هآرتس، للقول: أنا أخجل من الجيش الإسرائيلي، الذي أقسمت بالولاء له يوم تأسيسه، أنا قلق لأن إسرائيل أصبحت بلداً قبيحاً. إنني أسأل نفسي بعد أيام من اندلاع أحداث غزة: من انتصر حتى الآن؟ ليس لدي شك: انتصر الفلسطينيون، لقد كان مستحيلاً فتح محطة تلفزيونية أجنبية يوم الجمعة دون أن ترى أعلام فلسطين أمام عينيك، بعد سنوات اختفت فيها القضية الفلسطينية من الإعلام العالمي، عادت بشكل كبير، لم يدافع أحد في الأمم المتحدة عن إسرائيل، ولا حتى أصدقاؤنا.
لقد انتصر المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، والفلسطينيون سينتصرون أيضا في هذه المعركة. أما بروفيسورنيف غوردون؛ من جامعة بن جوريون، فكتب مقالاً في مجلة (+972 Magazine) بعنوان: أين غاندي فلسطين؟ مسيرة في غزة، قائلاً: بدل أن نسأل متى سينتج الفلسطينيون غاندي، يجب أن نسأل متى ستنتج إسرائيل زعيماً لا يُخضع شعباً محتلاً من خلال العنف الفتَّاك؟ والجواب هو بالطبع عندما تتخلص إسرائيل من روحها الفرعونية، وتدرك أن للفلسطينيين الحق في الحرية.
إن الفلسطينيين – اليوم – قد وجدوا أن هناك الكثير مما يمكن أن يتعلموه من التاريخ النضالي للزعيم الهندي، ومن منهجه اللاعنفي في مقارعة المحتلين، وهذا سيقطع الطريق أمام دولة الاحتلال في شيطنة المقاومة الفلسطينية ووصمها بالتطرف والإرهاب، وسيعزز من جهود التضامن مع الفلسطينيين حول العالم، من أجل حقهم في تقرير المصير.
بقلم مفاز أحمد يوسف
اضف تعليقا