كانت الجلسات العامَّة، وجلسات اللجان – التي عُقدت ضمن أعمال الملتقى الدوليُّ الرابع للتضامن مع فلسطين – غنيةً وجميلةً، إلا أنها كانت بطبيعة الحال جلسات “رسمية”، لا يمكن أن تستوعب مساهمات العدد الكبير من الشخصيات التي شاركت في الملتقى، ولا أن تكفي لإقامة وشائج القرابة الحقَّة بينهم، عبر الحوار والمسامرة والحديث المتحرر من سيف الزمن وسطوة الكاميرا والمذياع.

لكنَّ ما لم توفّره الجلسات الرسمية للملتقى، قدَّمَتْه لنا جلسات من نوع آخر، منها السهرات الخارجية التي تضمَّنت مشاركات لفرق فنية فلسطينية، ومنها جلسات المطعم؛ مطعم الفندق الذي شهد لقاءات طريفة، وعُقدت فيه صداقات جديدة، ودارت فيه حوارات لم تقلَّ في أهميتها وثرائها عن الحوارات التي شهدتها اللقاءات المخطَّط لها في برنامج الملتقى الرسميّ.

وها أنا أنقل الآن طرفاً من حديث دار بين مجموعة من المشاركين في الملتقى، جاء بعضُهم من غرب إفريقية، وبعضُهم الآخر من شرق آسيا، بالإضافة إلى آخرين من لبنان وسورية وفلسطين.

لكنّي لن أنقل كلّ كلمة أو فكرةٍ منسوبةً لشخص محدد، لأني لستُ قادراً الآن على تذكر صاحب كل مقولة بعينه، خاصةً وأني وجدت الجميعَ متوافقين على الفكرة الأساسية، فليكن الحديثُ إذن حديثَ رجل واحد، وقد كان كذلك فعلاً من ناحية الجوهر والحقيقة. كان الجميعُ على مائدة الملتقى، فقالوا، وكان مما قالوا:

لم يكن الترابط بين ما يجري في أرجاء بلادنا، في الأحداث التي عُرفت باسم “الربيع العربي”، وبين القضية الأمّ “قضية فلسطين” ترابطاً خفيّاً لا تدركه الأبصار، فضلاً عن البصيرة.

بل كانت الأمور كلُّها تجري في سياق واضح، يهدف إلى تمزيق ما تبقى لدينا من روابط اجتماعية وثقافية وسياسية، والتشكيكِ في المقدَّسات الوطنية والمسلَّمات التي أحاطتْ بالصراع مع العدوّ الصهيونيّ، ومنها رفض ُكلِّ صيغةٍ للتسوية تُبنَى على غير الحلِّ العادل والشامل للقضية، وأساسُ ذلك في نظرنا تحريرُ كامل التراب الفلسطيني، وإعلانُ القدس عاصمةً موحَّدة لهذه الدولة الواحدة، التي ستشكّل نواةً لوحدةٍ ما، بصيغةٍ معقولةٍ ما، بين دولنا التي صُنعت الحدود ما بينها على يد سايكس وبيكو ومَن وراءهما.

يالَهُ من كلام ناعمٍ حالمٍ ! أليسَ كذلك ؟!

نعم. سيجدُ كثيرٌ منَّا أنَّ هذا الحلمَ بعيدُ المنال، لدرجةٍ لا تُحسَبُ معها المسافةُ التي تفصلنا عنه بالسنين. ونحن معهم في أنها لا تُحسَبُ كذلك، ولكنها تُحسَب عندنا بدرجة الوعي والبصيرة التي تمتلكها الأمة، وما يولّده ذلك من عمل دؤوبٍ منظم هادف، ولا يَضيرنا بعد ذلك أن يكون الهدفُ مستحيلاً في نظر بعضهم أو مستغرَباً، فكلُّ الإنجازات الكبرى التي حققتها البشرية كانت في يومٍ ما محلَّ إنكار وتشكيك، بل وتعرَّض أصحابها للسخرية والاستهزاء في كثيرٍ من الأحيان: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ. قَالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾.

ولكن لِنعُد الآن إلى النقطة الأولى التي بدأنا الحديث منها، وهي مسألة الترابط بين ما جرى ويجري في عالمنا اليوم، وخاصة في دول الطوق التي تحيط بفلسطين، وبين مشروع تصفية القضية الفلسطينية، عبر “صفقة القرن” أو غيرها من الصفقات التي عرفناها، أو التي لم نعرفها بعدُ مما ستجود به قريحة المستكبر الأمريكي أو سواه من داعمي الكيان الصهيوني وقاتلي أطفال فلسطين. فسواءٌ أكان الكيان الصهيونيّ وأمريكا هما اللذان خططا لإشعال هذه الأحداث والحروب، أو أنهما قاما باستغلالها شرَّ استغلال، فإن النتيجة سواء، وهي أنَّ الخطَّ العامّ منذ 2010 يسعى باتجاه تمزيق المحيط العربيّ حول فلسطين إلى “كانتونات” ضعيفة متناحرة، لكل واحد منها صبغةٌ مذهبيةٌ أو دينيةٌ أو قوميةٌ ضيقة، ويعادي كلٌّ منها جارَه ويحاربه ويسعى لدماره، بينما يتخذ “إسرائيل” والولايات المتحدة صديقاً وحيداً له، وشرطيّاً حامياً لوجوده.

وما الإعلان الأمريكي للقدس الشريف عاصمة للكيان الصهيوني إلا ثمرةٌ مرَّة من ثمار هذا المسار العاصف، سيتبَعها مِن بَعْدُ – كما يتمنَّى الصهاينةُ مِن كل جنس ولون ودين – إعلانُ القدس مدينةً يهودية وعاصمةً لدولة يهودية، وإخراجُ مَن عدا اليهود من المدينة المقدسة، واعتبار الفلسطينيين لاجئين مؤقتين في غيرها من المدن الفلسطينية، تمهيداً لتهجيرهم إلى سيناء أو إلى غيرها من البقاع التي يجري إعدادها لتكون وطناً لهم بديلاً عن أرض آبائهم وأجدادهم.

وبالتالي ينبغي أن يقوم الجميع بتوعية الجماهير بالأبعاد الخطيرة لما يجري، لتكون الأمة على حذَرٍ، وفي مواجهة كل مشروع يسعى إلى اختلاق عدوٍ جديد لنا… مِن أنفسنا ومن داخل بيتنا، وصَرف الأمة عن مواجهة عدوها الصهيوني وحلفائه، الذين هم العدو الحقيقي الوحيد.

وأن يكون المثقفون والمفكرون والإعلاميون والسياسيون وغيرهم من أصحاب الكلمة والتأثير ومشاريع التجديد والتحديث… على بيِّنةٍ من أنَّ أيَّ رؤية أو برنامج للنهضة أو الإصلاح لا تتضمن تصوراً واضحاً عن القضية الأساس للأمَّة “قضية فلسطين”، هي رؤيةٌ وبرنامج أجذم ومبتور.

وأنَّ كل خطط التنمية الاقتصادية والتطوير الاجتماعي التي لا تضعُ في حسبانها تكامل ذلك وارتباطه بالتحرر والاستقلال والكرامة الوطنية هي خطط ذاهبةٌ أدراج الرياح فما لها مِن قرار.

وأن بناء الشخصية وتربية المواطن وتكوين المجتمع وإقامة الدولة صاحبة السيادة، لا يمكن أن يتمّ دون تحديد مفهوم “الهوية”.

وأن أي تخاذل أو تهاون أو تردّد في إعلان حقِّ الأمة كلِّها في تحرير الأراضي المحتلة، وفي العمل من أجل أنَّ تكون “كلُّ القدس عاصمة كلِّ فلسطين”؛ سيكون له تأثير سلبيّ قاتل على الوجود الحضاريّ لهذه الأمة.

 

هذا بعضُ ما جرى على مائدة الملتقى، وكان طريفاً أن يختم بعض المتحاورين بقوله: “إمّا أن تكون فلسطين، وإمَّا أن لا يكون حقٌّ ولا عدالةٌ ولا إنسانيةٌ، وأن لا نكون”.

بقلم الأستاذ الشّيخ محمّد أديب ياسرجي- عضو الحملة العالمية للعودة والملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين.