جاثٍ كشِبلٍ ابن سَبُع، قد تحفَّز واستحضر همَّته للوثوب.
يقظٌ وعيناه كبُومةٍ في ليل بهيم.
واضعٌ يديه على الأرض يلامسُها بأطراف أنامله، وكأنه يستعدُّ لسباق سريع.
مُتخففٌ من أثقال الثياب، قد نبذَ عنه كلَّ حِمل يعوقُ حركتَه.
جاهزٌ للمواجهة، قد أعدَّ للقاء عُدَّته.
وما عُدَّة اللقاء لديه؟
إنَّها كمَّامة غطَّى بها فَمَه والأنف. كمامةٌ يبدو عليها القِدَم، وكأنَّه قد استخدمها مِنْ قَبْلُ مراتٍ عديدة، في مواجهاتٍ سبَقَ أن اعتاد على المشاركة فيها.
تلثَّم الشِّبل بكمامته البيضاء المغبرة، ودسَّ فيها بصَلةً متطاولة من بصل الربيع الأخضر، جاعلاً جزُءَها الأبيض تلقاء أنْفه؛ وشراشيبُها الخضراء مرفوعةٌ إلى أعلى وكأنَّها عَرْفِ ديك أو ذيل طاووس، وقد تدلَّت أطرافها على صفحة وجهه، رغم اليباس الذي بدأ ينال منها، ربما أيضاً لكونه قد احتفظ بها منذ أيام وأعدَّها لهذه الملحمة، أو سبقَ وتنشَّقَ عبيرها في ملاحم ماضية.
مَن أنت؟ يا صغيراً ضمَّ بين جوانحه كلَّ مكارم الرجولة!
مَن أنت؟ يا طفلاً عركَ الزمان وخَبِرَ حقيقةَ الأيام!
مَن أنت؟ يا موقفاً ينطق دون كلام، ويُبين دون خطابة!
من أنت؟ يا روحاً غنيةً في زمن الجدب والأموات!
من أنت؟ يا حرّاً يصارع تردُّد العبيد!
من أنت؟ يا غريبَ الروح كغربة الصورة وأكثر!
من أنت؟ سؤالٌ لا يحتاج جوابه إلى شهادة تعريف، ولا يفتقر إلى جواز سفر.
من أنت؟ سؤال تنطق حالك في الردِّ عليه بما يشفي صدور مُحبِّيك، ويقطع وساوس شانئيك.
من أنت؟ وما الفرق بين أن يكون اسمك “تحرير أبو سبلة” أو “محمد أبو خضير” أو “علي الدوابشة” أو “ليث أبو نعيم” أو “مصعب التميمي” أو حتى “محمد الدرَّة”؟!
ما الفرق بين أن تكون ممن أحرقه المستوطنون أو اغتالته طيارة صهيونية أو قنصته بارودة إسرائيلية، أو ممن لا يزال مُطارَداً من قِبَل قطعان “المستعربين”، وقد أغمضت العينَ عنه وعن قضيّته قبائلُ “الأعراب”؟
ما الفرق بين كل هذه الاحتمالات، وأنت في جميع الأحوال “شهيد”؟!
شهيدٌ أنت يا كبد الأرض المباركة، فما الفرق بين أن تتنكَّر لك الأمم، أو تتعرَّف إليك؟
فأنت – بكلمةٍ واحدةٍ لا تغني عنها كلُّ الكلمات – أنت فلسطينيّ.
آهٍ منك يا مَن لا يعرف الآه.
أعدُّوا لك الرصاص؛ فلما لم تجدْ وقاءً منه قابلتَه بجلدك وعظامك.
وأعدّوا لك الغاز المسيل للدموع، فلم تجدْ له درعاً يَقيك شرَّه إلا كمامتك البالية وصديقتك البصلة.
وياللمفارقة كما يقولون، أو لِنَقُلْ: ياللموافقة ! فكأنك ببصلتك هذه تذكِّر عدوَّك بموبقة أجداده، يوم استبدلوا بنعمة الله شرَّاً، فطلبوا الذي هو أدنى، وسألوا النبيَّ المعذَّب فيهم أن يدعوا ربَّه، ولم يقولوا “ربَّنا” لأنهم عن الإيمان مُبعَدون، بل قالوا: ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾.
لقد اختاروا البصلَ ذلك اليوم، وها أنت تختاره اليوم في مواجهة غازاتهم القاتلة، وشتَّان ما بين اختيارك واختيارهم، كما هو شتَّان ما بين العزَّة والهوان.
اختاروه بديلاً عن نعمة الله؛ فقال لهم الله: اهبطوا. إذ لا يَليق بأمثالهم إلا ما يُناسب خُنوعَهم: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
واخترتَه أنت لتعلو. اخترتَه لتخرجَ إلى الشمس وتقاوم. وشتَّان بين من يواجه عدوَّه وبين مَن يقولون: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.
لقد برزتَ إلى الميدان وسلاحُك بصلة، فأيُّ نصرٍ يمكن أن يحقِّقه عدوك عليك؟
لئنْ قتَلكَ فهو مهزوم، فما بالكَ وأنت باقٍ بين عينيه، تذكِّره في صحوه ومنامه أنه إلى الزوال سيؤول؟!
طوبى لكَ يا إمام.. ولمَ لا تكونُ كذلك وقد تأخَّر الكلُّ وأنت وحدك إلى الأمام.
طوبى لكَ.. بل أنت “طوبى” نفسُها.
فطوبى إذن لكِ يا قدسُ، وطوبى لكَ يا أقصى، وطوبى لكِ أنت يا شجرةَ الحقِّ ونهر الحياة وسرَّة الكون.. طوبى لكِ يا فلسطين.
بقلم الأستاذ الشّيخ: محمّد أديب ياسرجي- عضو الحملة العالمية للعودة وَالملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين.
اضف تعليقا