وقف صهيون إلى جانب رفاقه يطلقون الرصاص على المتظاهرين الفلسطينيين العزّل الذين لم يكن بحوزتهم من سلاح سوى الحجارة يدافعون بها عن أنفسهم وعن أرضهم المحتلّة، وما إن أطلقت إحدى دبابات الكيان الصهيوني نيرانها عليهم، حتى تفرقوا عنها متجهين الى ساحة أخرى للمعركة.

راقب جنود العدو المحتّل باهتمام حذر ابتعاد وتفرّق جموع المتظاهرين حتى خلت الساحة ولم يبق منهم سوى صبي صغير لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره، استمر في قذف الحجارة بكل شجاعة وجرأة وهو يغني ” لو كسروا عظامي مش خايف، لو هدوا البيت مش خايف”، ثم أنه ووسط دهشة وذهول الجبناء، اقترب بخطوات المجد وواجه دبابة الموت التي كانت في طريقها إلى باقي المدن الفلسطينية والتي كانت تنتشر فيها المظاهرات المناوئة للاحتلال.

تحدّى فارس العدو المتحصن بالدبابات بكل جسارة وإقدام وهو يرميهم بحجارة الكرامة والعزّ غير مكترث للرصاص الذي كان ينهال عليه من كل حدب وصوب، وخاطبهم بصوته الحرّ الأبي: “لن تمروا .. لن تمروا.. “، وسمع صهيون أحد رفاقه يطالبه قائلا: “اقتله، اقتله، إذا كان بهذه البسالة وهو صغير، فماذا سيفعل بنا حين يكبر؟”  وشحب وجه صهيون لهذه الفكرة وارتعدت فرائصه، ولم يشعر بأي تأنيب ضمير وهو يصوّب بندقيته نحو الفارس الصغير ويرديه شهيدا  برصاصة مزّقت شرايين وأوردة عنقه الشريف.

بعد حوالي ستة أشهر من استشهاد البطل الصغير فارس عودة استيقظ صهيون من نومه مذعورا، فقد عاوده الكابوس المزعج الذي صار جزءا لا يتجزأ من ليله الطويل، وتقوقع على سريره متصببا بعرقه وسط ظلمة حجرته الباردة.

بلع لعابه بصعوبة وهو يلهث من الفزع بعد أن التقطت أذنيه أصوات غريبة مجهولة المصدر،  فأرهف السمع كي يتأكد إن كانت هذه الأصوات الغريبة تلاحقه من حلمه المخيف أم هي حقيقة واقعية.

ازداد الصوت وضوحا، فبدأ صهيون يرتجف من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه كريشة في مهب الريح، ولم تواته الجرأة كي ينتصب على قدميه ويتبين زائره الغريب،  بل تجعدت ثنايا فكّه وهو يهمس مترددا: من هناك؟  من هناك؟

تردد صدى صوته في أرجاء الغرفة، ولم يسمع جوابا لتساؤله، فتهالك على نفسه من الرعب وقد انهارت أعصابه تماما حين رأى نورا وضّاحا يخترق سقف حجرته وينير عالمه المظلم، ويخاطبه بصوت ملائكي: لماذا أنت خائف؟ ألا تحب رؤيتي؟

صرخ صهيون بوحشية وهو ينتصب على قدميه بحركة فجائية: “أنت، أنت، لماذا تلاحقني؟ ماذا تريد مني؟ ألم أقتلك شرّ قتله .. شرّ موتة”.

قاطعه الصوت الملائكي قائلا:

“بل هي أفضل موتة، لقد متّ شهيدا، و أفضل  الناس بعد الرسل عند الله عز وجل هم الشهداء”

الشهيد فارس عودة

أجهش صهيون بالبكاء بعد أن تلاشى النور والصوت الملائكي المصاحب له، ليتركاه مع وحدته القاتله وهو يخاطب الفراغ: “لقد قتلتك بيدي هاتين، وشاهدت بأم عيني مراسم دفنك، فلم لا ترقد في قبرك الأبدي وتتركني وشأني .. آه .. آه …. لقد خسرت كل شيء بسببك”.  

انبلج صباح يوم جديد فنهض صهيون  بتثاقل وارتدى ثيابه وقد عزم على القيام بشيء خطير، إلا أنه سرعان ما تذكر بوجه مكفهر الطقوس الجديدة التي عليه القيام بها كلّما أراد مغادرة منزله، وكاد أن يجهش بالبكاء ثانية وهو يرتدي معطفا ثقيلا ويضع على رأسه خوذة حديدية على الرغم من قيظ حرارة صيف المدينة.  

ولن نستغرب سلوكه هذا حين نعلم أن سببه هو تلك الحجارة الصغيرة والحادة التي  تقبع بانتظاره  خارج منزله وتبدأ بملاحقته ورشقه طيلة فترة تواجده في الخارج.

أطلق صهيون ساقيه للريح محاولا تفاديها، ولكنها ككل يوم منذ استشهاد البطل الصغير كانت تتحلق حوله بكثافة في الفضاء الرحب ولا تكلّ ولا تملّ من ضرب جسده الهش بكل خفّة ورشاقة.

تعوّد الناس على هذا المشهد اليومي خلال الستة أشهر الماضية، فبدءوا بالإبتعاد عنه  قدر الإمكان كي لا تصيبهم احدى هذه الحجارة أو تشملهم بلعنتها كما فعلت مع ستة جنود حاولوا التقاطها فلقوا حتفهم على الفور.

بدا الطريق طويلا لصهيون وهو يتلقى ضربات الحجارة المنهمرة عليه كالشلال، وحثّ الخطى بنفس لاهثة حتى وصل الى مبتغاه.

توقف أمام بيت قديم، أصبح خلال فترة قصيرة مزارا عالميا يؤمّه الناس من جميع أرجاء الدنيا،  فالأمور التي حدثت وتحدث داخل أركانه متميزة  في غرابتها.. وقد لمس صهيون هذه الحقيقة حين  توقفت الحجارة عن رشقه مع  أول قدم له وضعها داخل الفناء الصغير المسّور بالسياج،  وسكنت الحجارة بهدوء ووقار وهي تراقبه يتأمل بجشع وذهول اللآلىء البيضاء التي تغلف أرض الفناء، وهذه الأعجوبة فشل أكبر  العلماء عن كشف غموضها. فهي تتساقط بغزارة  لتتراكم كتلال تخطف الأبصار من وهج لمعانها، ولكن ما إن يمسكها إنسان بيده كما فعل صاحبنا صهيون حتى تتحول الى دماء حارقة.. 

شهق  صهيون فزعا، ونفض يده متألما، لكن ولدهشته العظيمة لم تسقط قطرة واحدة من الدماء  على الأرض بل ارتفعت الى السماء وغابت فوق الأفق لتختفي عن ناظريه.

هزّ رأسه بلامبالاة، وتوجه رأسا الى باب المنزل فطرقه  بعصبية بالغة، وأثناء انتظاره نزع خوذته ومسح عرقه بباطن كفيه حتى فُتح الباب وأطلت منه سيدة شابة ترتدي رداء  أسود يعبّر عن الحزن البليغ الذي يعتصر قلبها..

فوجئت المرأة لرؤيته، وشعرت بالغضب يعتمل بداخلها، لكنها قبل أن تتفوه بكلمة غلبها البكاء فانهمرت الدموع من عينيها لتتحول وهي تتساقط على الأرض الى  لآلىء تلتمع بين قدميها..

ثار صهيون بوجهها قائلا: “ألن تكفي عن البكاء، كلما ازداد بكاؤك كلما ازدادت الحجارة التي تطاردني وتهاجمني قوة وحدةّ، لقد خسرت كل شيء بسبب ابنك، خسرت عملي وزوجتي وأولادي ورفاقي”  

أجابته بهدوء: “وطفلي خسر حياته بسببك، فقط لأنه كان يدافع عن أرضه وكرامته وحريته”. 

قاطعها صهيون وهو يشير بيده  إلى النور الساطع الذي كان يشع بجانبها: “هذا هو فارس .. هذا هو ابنك .. إنه لم يمت.. يا الهي .. يا الهي .. أنا أراه في كل مكان”

ورأى صهيون فارس ذو الجسم النحيل بشعره الأسود وعينيه الصغيرتين وابتسامته البريئة  وهو يتعلق برداء أمه ويقول له بتحدّ: “لا تؤذ أمي أيها القاتل المحتلّ الغاصب، لقد حرمتها فلذة كبدها وثمرة فؤادها، حرمتها ابتسامته وقبلاته وعناقه، حرمتها شقاوته واندفاعه، حرمتها شهادته المدرسية والجامعية، حرمتها رؤيته عريسا يزفه محبيه، حرمتها حفيدا يسلّي وحدتها ويملأ حياتها بالضحكات في كبرها. إن دموعها التي تذرفها ألما وحزنا على فراقي تتحول إلى لآلىء درّية تخفف عنها هول فاجعتها حين تدرك السلام الذي أحظى به هنا .. فهل ترغب بحرمانها أيضا مشاعرها أيها الظالم الجبان؟”

وبنفس العناد والجحود والعجرفة التي قتل بها أجداده أنبياء الله عز وجل ورسله، صرخ صهيون  بالأم مهددا: “سوف أحرق منزلك  إن لم تبعدي ابنك عني … و ..”

إلا أنه الأم الملكومة لم تتمكن من سماع باقي جملته، فقد اختفى صوته فجأة، واكتشف ذلك حين أصبح  وميض النور إلى جانبه يهمس بأذنه قائلا: ” نحن لا نخشى صوتك المضلل مهما علا، وسوف تستعيده حين أنتهي من جولتي  القصيرة معك كي أخبرك عن حياتي وأحلامي، فأنت قتلتني دون أن تعرف شيئا عنهما”.   

انتفض صهيون في مكانه وأخذ يدورحول نفسه كالحلزون ويلوّح بيديه بوجل وفزع كي يُبعد النور عنه دون جدوى، وسار مُجبرا تاركا الأم تهمس من ورائه براحة وطمأنينة: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ” ..

سار صهيون بين شوارع المدينة مسيّرا وليس مخيّرا، فالنور الذي كان بجانبه هو الذي كان يحدد له طريقه والأحجار كانت تطير حوله ولا ترشقه احتراما للفارس الصغير الذي مسكها بيديه الطاهرتين خلال أيام حياته  وضرب بها العدو المحتل..

استمع صهيون الى فارس وهو يشير الى أحد المدارس قائلا له: “هذه هي مدرستي التي كنت أعشق التعلم فيها، وكنت أمارس في ساحتها رياضتي المفضلة مع أصدقائي، ونستمتع خلال الفرصة بأكل فطائر السبانخ ولحم الحبش، ثم نعمد إلى أداء رقصة الدبكة الشعبية، هل ترقصها؟ قطعا لا! فأنتم تمقتونها لأنها تعكس تراثنا الأصيل الذي تحاولون طمسه بلاهوادة، تكرهون أننا خلال الرقصة تتشابك أيدينا وتتكاتف جهودنا وتضرب أرجلنا الأرض بكل قوة وعنفوان، يخيفكم ذلك، ويذكركم أنكم لا تنتمون إلي هذه الأرض الطاهرة التي ترفض تواجد الأرجاس فيها أمثالكم… لا أخفي عليك، أنا أشتاق لكل هذا، وما يؤلمني أكثر، أن أمي تشعر بهذا الحنين، فتحمل كل يوم حقيبتي الى المدرسة لتراني في قلبها بينهم وتشعرني بتواجدي معهم”.

هزّ صهيون رأسه ساخطا ونبح بلا صوت وأكمل سيره مجبرا بجانب الفارس الصغير الذي قاده الى زقاق ضيق تلتصق فيه المنازل بشدة، وأشار فارس الى أحد هذه البيوت قائلا: “هذا هو منزل صديقي المفضل رامي وقد تنبأت له باسشهادي قبل أن تقتلني بيوم واحد، وكنا نخرج معا للتظاهر ضدّكم ، وكان كبار السن يحاولون منعنا من ذلك خوفا على حياتنا بسبب صغر أعمارنا، لكننا لم نكن نخشاكم أبدا، كنا نريد أن نعرف ماهو طعم الحرية الذي نقرأ ونسمع عنه ولا نعرفه جراء احتلالكم أرضنا”

ما إن أنهى حديثه حتى خرج صديقه من باب منزله فانشرحت أسارير فارس، وراقب صديقه وهو يهمّ بضرب صهيون بالحجارة التي التقطها من الأرض لكنه غيّر رأيه ورماها بعيدا ..

سمع صهيون صوت فارس الصغير يشرح له قائلا: “لقد رماها لأنك بدون سلاح، فهو ليس جبانا و يريد أن ينل الشهادة مثلي في أرض المعركة حين يواجهكم بكل جسارة”  

تململ صهيون من سماع كلام الفارس الصغير، وودّ في قرارة نفسه لو أنه قتل رامي أيضا في ذلك اليوم المشئوم، وما إن تمنى ذلك حتى وجد نفسه محاطا بأكثر من مئة طفل متشابهين ويحملون ملامح فارس عودة  ويرتدون نفس الثياب التي كان يرتديها عند استشهاده، ويغنون بصوت واحد “لو كسروا عظامي مش خايف ، لو هدوا البيت مش خايف”.  

تملّك صهيون الفزع، وانحلّت عقدة لسانه ليهرب من تخيلاته وهو يهرول باتجاه منزله والأحجار ترجمه في كل أنحاء جسده  ويصرخ مرددا:

“كلكم فارس .. كلكم فارس.. كلكم فارس .. كلكم فارس”.

أغلق صهيون باب منزله بإحكام وجلس يضمّد جراحه التي خلّفتها الحجارة على وجهه ويديه وهو يهدّد ويتوعد بالإنتقام، ورفع نظره الي الأعلى مخاطبا البطل الشهيد فارس: “أليست جنتك أفضل من دنياي، لماذا لا تقبع فيها مع أقرانك وتدعني أتمتع بحياتي؟” 

انبثق النور من سقف الحجرة ليسمع صهيون جواب الملاك فارس قائلا: “أنت الذي تلاحقني حتى بعد استشهادي، إننا نخيفكم حتى بعد موتنا، إن دماءنا الذكية تخلق الاف الأبطال .. وهذا يرعبكم لأن مهانتكم وذلكم عبر التاريخ تمنعكم من إدراك وفهم عقيدة الأحرار”   

قاطعه صهيون وهو يزأر من الغضب والإنفعال: “لقد قتلتك، لقد شرّدت شعبك، لقد اغتصبت أرضك، وسأجعلك الآن تتمتع بمراقبتي وأنا أقتل بقية أفراد عائلتك”.

ونهض من فوره وحمل بندقيته ليندفع الى الخارج مهرولا باتجاه منزل البطل الشهيد غير مبال لرجم الحجارة من حوله. ووقف على تلال اللؤلؤ الأبيض داخل الفناء وصرخ مناديا: “اخرجي .. اخرجي .. فإن ابنك فارس مشتاق لرؤيتك”.

خرجت الأم من منزلها وهي تجيبه بهدوء ووقار: “وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى”   ثار صهيون لجوابها فرفع بندقيته وأطلق رصاصة منها باتجاهها لم تصبها، إذ انزلقت الرصاصة على تلال اللؤلؤ الأبيض، وأحالتها بغمضة عين الى بحر من دماء الشهيد فارس، وبدأت هذه الدماء تلتف كالدوامة على جسد صهيون مانعة إياه من المقاومة إلى أن غطته تماما فأغرقته وهو يردد بهذيان “كلكم فارس.. كلكم فارس.. كلكم فارس”، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيره ويموت خوفا ورعبا من تهيؤاته وأوهامه.


حنان كنعان| روائية لبنانية