بيروت حمود – كاتبة وصحافية فلسطينية
«200 ألف متر مربع… ثورة في القدس الشرقية… عشرة آلاف فرصة عمل.. من وادي الجوز إلى وادي سيليكون». عشرات العناوين المماثلة تتصدّر المشهد في القدس المحتلة منذ طرح بلدية الاحتلال واحداً من أضخم المشاريع الاستيطانية الصناعية – التجارية، التي تُهدّد بالقضاء على معالم الأحياء العربية في القدس، وحرمان مئات المقدسيين أرزاقهم. فما حقيقة هذا المشروع؟ وإلى أين وصلت أذرع الأخطبوط الإماراتي في شأن الاستثمار فيه؟
قبل خمسة شهور، أطلقت بلدية الاحتلال في مدينة القدس واحدة من أضخم الخطط الاستيطانية، هادفةً إلى تحويل الأحياء العربية إلى مركز تكنولوجي وصناعي وتجاري، لتغدو شبيهة بالمنطقة الصناعية في خليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأميركية، والتي تُعرَف بـ«سيليكون فالي». الهدف، كما أعلنته البلدية الإسرائيلية على لسان رئيسها موشيه ليئون في مقابلة مع صحيفة «إسرائيل اليوم»، هو «توفير أكثر من عشرة آلاف فرصة عمل لسكّان المنطقة ومحيطها، ودفْع شركات التكنولوجيا إلى الاستثمار في المشروع الذي يتضمّن مراكز تجارية وأخرى سياحية كالفنادق وغيرها»، فضلاً عن «تعزيز الثقة بين سكّان هذه المناطق الفلسطينيين وبين البلدية والحكومة الإسرائيليتَين، ولذلك تعمل البلدية أيضاً على ملاءمة مناهج التعليم في المدارس المقدسية لتُلبّي سوق العمل الذي يُعنى به المشروع». هكذا، وفق ادّعاءات ليئون، المعروف بميوله اليمينية المتطرّفة، يُراد «خلق الثقة» لدى سكّان ما يُعرف بـ»القدس الشرقية» من طريق شرائهم بفرص عمل، وتبديل معالم الأحياء العربية التي يقطنونها، فضلاً عن أسرلة مناهج التعليم في المدارس المقدسية، لا بهدف أسرلة الطلبة مثلما هو معمول في المدارس الحكومية الإسرائيلية في مناطق الـ48 المحتلّة، بل بهدف «ملاءمتها مع فرص العمل» فقط!

الخطّة المطروحة، التي تحمل اسم «وادي سيليكون»، تتركّز، بحسب الشريط الترويجي الذي نشرته البلدية، في حيّ وادي الجوز، وهو جزء من الخطة الخمسيّة الحكومية «لتطوير القدس وتقليص الفجوات بين غربها وشرقها» بتكلفة إجمالية تصل إلى نحو 700 مليون دولار. ومن المفترض أن تمتدّ شركات «الهاي – تك» على مساحة 200 ألف متر مربع، فيما الفنادق على مساحة 50 ألف متر مربع، والمراكز التجارية على مساحة 50 ألف متر مربع أخرى. وفي تصريحات رئيس البلدية، يشير الأخير إلى أن ثمّة مشروعاً آخر يستهدف تطوير البنى التحتية والشوارع، حيث من المفترض أن يُحوّل 13 شارعاً إلى ما يُعرَف بشوارع الأرصفة.
في هذا الإطار، يلفت المحامي مهنّد جبارة، في اتصال مع «الأخبار»، إلى أن هناك بلبلة نتيجة «التباس الأمر ربّما على وسائل الإعلام، إذ خلط بعضها بين وادي سيليكون ومشروع تنظيم البنى التحتية والشوارع في مركز مدينة القدس»، موضحاً أنه «قبل أيام فقط، أودعت البلدية مخطّطاً ضخماً يُحدّد سياسات التنظيم الإسرائيلية في مركز المدينة للقدس الشرقية». وبالرغم من أن هذا المشروع يُعدّ له منذ 20 عاماً، فقد أعطت بلدية الاحتلال 60 يوماً فقط للسكّان الفلسطينيين للاعتراض عليه. وفي التفاصيل، يَتبيّن أن من شأن المخطّط أن يُبدّل معالم الشوارع العربية، جاعلاً بعضها شوارع أرصفة ضمن الرؤية الإسرائيلية التي ستعتمدها البلدية لتنظيم العقارات والمباني والمساحات الفارغة في مركز المدينة شرق القدس. يؤدي ذلك، وفق جبارة، إلى «تقييد وحصر أيّ تمدّد عمراني مستقبلي في هذه المنطقة، فضلاً عن أنه يحرم السكّان الأصليين من أيّ مشاركة في تحديد الوضعية التنظيمية للأحياء والأماكن التي يسكنونها». كما أنه يؤثر في حياة أكثر من 300 ألف فلسطيني، ويعيق إمكانية التمدّد الديمغرافي؛ إذ إنه يشترط بناء خمس طبقات فقط لكلّ مبنى، في حين تمنح البلدية المستوطنين اليهود في غرب القدس إمكان البناء حتى 16 طابقاً.
ونقلت الصحيفة العبرية عن غولبر قوله إنه «قريباً، ستكون هناك زيارة من قِبَلي أنا وطاقم ميناء إيلات للإمارات، على أن نجري في الأيام المقبلة جلسة عبر الاتصال المرئي». وعلى ما يبدو، فإن في المشروع فوائد إسرائيلية جمّة، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت قطاع السياحة ومجمل فروع الفندقة، إثر تفشّي فيروس «كورونا» في إسرائيل. وفي هذا الإطار، رأى غولبر أن «حركة المسافرين من إيلات إلى السعودية يمكن أن تفيد وتُعزّز السياحة، وخاصة بعد تضرّر الأخيرة في إسرائيل عامة وفي إيلات بشكل خاص». وأوضح أن «الرحلة تُعدّ قصيرة جداً، كما يؤمّن المشروع نحو مليونَي مسافر سنوياً، ما يؤثّر إيجاباً على السياحة والاقتصاد في إيلات بشكل خاص».
علاوة على ذلك، ذكرت الصحيفة أنه سيُبحث في وقت قريب تشغيل خطّ بحري تسافر عبره سفن الحاويات التجارية بين ميناء إيلات وميناء جبل علي في دبي، في رحلة تستغرق حوالى عشرة أيام. ليس هذا فحسب، وإنما ستُصدّر إسرائيل الخضر والفواكة التي يزرعها المزارعون الإسرائيليون إلى الإمارات عبر سفن مبرّدة، «وخاصة أن الوفد الإماراتي معجب بالإنتاج الزراعي الإسرائيلي الذي سمع كثيراً عن جودته».

الإمارات تنتقم لحاييم ياسكي!
ألف طبيب وباحث وممرّض إسرائيلي من المتوقع أن ينتقلوا من مستشفى «هداسا – عين كارم» الإسرائيلي في القدس المحتلّة، للعمل في فرع جديد للمستشفى ذاته يُبحث افتتاحه في دبي. هذا ما كشفه مدير المستشفى، زئيف روتشتاين، في تصريحات نقلتها مجلة «غلوبس» العبرية. روتشتاين، الذي زار الإمارات أخيراً، أعرب عن تأثره بأن صيت المؤسسة الإسرائيلية وصل إلى دبي، قائلاً: «يريدون (في دبي) نقل هداسا إليهم.. لم أستطع أن أحلم بذلك حتى! أنا متأثر جداً لليوم الذي سيتحقق فيه ذلك». وأوضح أن افتتاح فرع آخر لـ«هداسا» في دبي لا يزال في مرحلة مبكرة جداً من المفاوضات، لكنه تحدّث أيضاً عن «المعدّات الطبيّة المتطورة التي سيوفرها الإماراتيون. في المقابل، سينتقل 1000 طبيب وطبيبة وممرض وممرضة إسرائيليين مع عائلاتهم للعمل هناك بشروط سخيّة، سواء من حيث الراتب والسكن والعمل لأفراد الأسرة والتعليم المجاني للأبناء، فضلاً عن التأمينات الحياتية والصحية». وأضاف إن «الإماراتيين لم يضعوا عوائق مالية أبداً… كما طلبت منهم دعم مستشفى هداسا في القدس بسبب الأزمة المالية التي تمرّ بها»، وذلك على خلفية انتشار فيروس «كورونا» الذي ولّد أزمة سيولة مالية في المستشفيات الحكومية الإسرائيلية. هنا، يحضر تاريخ مستشفى «هداسا»، الذي شكّل إحدى أهمّ البوابات التي اخترقتها الحركة الصهيونية لتَنفذ منها إلى فلسطين. ففي عام 1912، تأسّست «هداسا» كمنظّمة نسائية على يد النسوية الصهيونية، هنريتا سولد، التي شاركت أيضاً في تأسيس حزب «إيهود» إبّان الانتداب البريطاني لفلسطين عام 1942. المنظمة التي أَرسلت عام 1918 بِعثتها الطبية إلى فلسطين المحتلة من أجل تنظيم الخدمات الطبية في المستوطنات، أعلنت صراحة أنها أُنشئت بهدف «تشجيع ودعم مشاريع ومؤسسات يهودية في فلسطين وتعميق وتقوية القيم اليهودية». وحتى اليوم، لا تزال المنظمة النسائية، التي تُعدّ واحدة من كبريات منظمات العمل النسائي اليهودي في العالم، تنشط في مجال تجنيد الأموال لدعم المستشفى وكلية الطب التابعة له تحت رعاية الجامعة العبرية في القدس.
لكن «هداسا» ليست مجرّد مؤسسة طبية؛ إذ بحسب الصحافي والمؤرخ الفلسطيني، عارف العارف، في كتابه «النكبة والفردوس المفقود»، فقد «استخدم اليهود مبناها (هداسا) ومبنى الجامعة العبرية حصوناً تمركزوا فيها وراحوا يقتنصون المسـافرين والمقيمين مـن سكان الأحيـاء المجـاورة، وكثيراً ما أطلقوا النار من تلك المباني على حيّ الشيخ جراح ووادي الجوز وباب السـاهرة…». ولطالما كان المستشفى هدفاً للمقاتلين الفلسطينيين؛ إذ إنه بعد مذبحة دير ياسين المروّعة، واستشهاد القائد الأعلى لـ«جيش الجهاد المقدس»، عبد القادر الحسيني، بأيام معدودة، قامـت مجموعـة «التدمير العربي»، بقيادة فوزي القطب، باسـتهداف قافلة «هداسا»، المؤلّفة بحسب المؤرّخ نفسه «من عدد من المدرعات والحافلات التي حملت الأطباء والممرضين والأساتذة والمسلحين من عصابة الهاجاناة من غرب القدس باتجاه الجامعة العبرية ومستشـفى هداسـا». وقد خلّفت العملية مقتل 38 مِمّن كانوا على متن القافلة، لتندلع بعدها معركة كبيرة شارك فيها مئتا مناضل فلسطيني، وأودت بحياة 78 يهودياً؛ بينهم مدير مستشفى هداسا، حاييم ياسكي، نفسه.
قد لا تعني هذه التفاصيل شيئاً بالنسبة إلى بعض حكام الجزيرة العربية، الذين يثبتون يوماً بعد يوم أنهم مَلَكيّون أكثر من الملك، وصهاينة أكثر من الصهاينة أنفسهم. لعلّ ما قد يهمّهم في ذلك كلّه هو البحث عن مزيد من الفرص للإمعان في ضرب الفلسطينيين وقضيّتهم.
نشر المقال في جريدة الأخبار اللبنانية.